[jnews_post_author ]
ولا يزال السؤال حياً؟ أخلاقهم أم أخلاقنا؟ قيمهم أم قيمنا؟ فضائلهم أم فضائلنا؟
قناعتي أن هذه التساؤلات باتت في جدل الماضي، وأصبح الإنسان مطالباً أن يتأمل في واقع آخر.
آدم هو جد هذه العائلة المقيمة على هذا الكوكب، وهذا على الأقل فهم المسلمين والمسيحيين، ولا يبعد عنه تفكير الآخرين، وعلينا أن نبحث في المشترك الإنساني من الفضائل، وهو ما نادت به نصوص الوحي ونور العلم على السواء.
المقاصد العليا للقرآن هي المقاصد العليا للإنسانية، وهي عينها المقاصد العليا في التوراة والإنجيل، وهي لا تحتاج لمصنفات ولا كتب شارحة، هي الفطرة التي فطر الناس عليها، وهي القيم التي كان يعرفها الأعرابي حين يجالس النبي ساعة من زمان ويعلن إسلامه ويتحول إلى قومه مبشراً وداعياً… إنها ليست أشياء تعلمها ولا هي نصوص قرأها ولا تفاسير ولا شروح… إنها ببساطة القيم المغروسة في الإنسان والتي تحتاج فقط للإرادة والعزيمة حتى يعلن المرء التزامها والعمل بها.
مات الرسول وليس للمسلمين فكرة عن مصحف مكتوب ينسخ العقل ويفرض الحقائق من الغيب، ويميز لهم الخير من الشر، وحين اقترح عمر بن الخطاب جمع القرآن اعترض أبو بكر غاية الاعتراض، واعتبر ذلك ترفاً لا مبرر له، فلم يرد أي أمر عن الرسول بهذا الشأن، وفي النهاية جرى الاتفاق على جمع الوثائق لأسباب معرفية وتراثية بحتة، ولم تخرج الوثائق من حجرة حفصة بنت عمر إلى منتصف عهد عثمان….
هل كانت الأمة خلالئذ بدون قيم ولا مبادئ؟ أم أن الناس كلهم كانوا يحفظون القرآن من الجلدة إلى الجلدة ولا حاجة للتدوين؟ يروي البخاري في الصحيح أن الذين حفظوا القرآن كله على عهد النبي الكريم هم فقط أربعة أشخاص، كلهم من الخزرج وهم زيد بن ثابت وأبو الدرداء وأبي بن كعب وأبو زيد، والأخير ليس له ترجمة، والأربعة ليسوا هم الخلفاء ولا قادة الفتوح ولا أمراء السرايا ولا المستشارون الكبار، إنهم الخبراء الوثائقيون الذين يديرون في العادة المكتبة الوطنية في جو أبعد ما يكون عن السياسة والإدارة والحرب.
إن المقاصد العليا للقرآن ليست أسراراً بوهيمية ولا عجائب متخيلة، إنها القيم ذاتها الذي ما زال الإنسان يناضل من أجلها بفطرته ونقائه وصفائه، هي التوحيد والعدل والمساواة والرحمة والعفاف والسلام والفضيلة والخير، والرذائل، هي بالضبط ما يناضل الإنسان لمواجهته منذ فجر التاريخ وهي الشر والمكر والغدر والخيانة والسرقة والفحشاء، وهي بالضبط وفق التعبير القرآني ما أوحي إليك وإلى الرسل من قبلك وهي مقاصد التوراة والإنجيل وشريعة حمورابي وتشريعات جوستنيان وما قال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك، وهي صحف إبراهيم وصحف موسى ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك.
كيف يتم تحديد الفضائل والرذائل؟ وما هي القيم وما هي الكبائر، إن أي لجنة من الحقوقيين الخبراء تجتمع في مكة أو نيوزيلاندا أو مونتريال أو كلكتا ستصل إلى نتائج متقاربة، ولدي تجربة مهمة تتصل بذلك في عام 2014 دعيت إلى فيينا عبر منظمة الانترفاكشن التي تضم رؤساء العالم السابقين، وطلب إلي أن أشارك في لجنة تضم خبراء من رجال الأديان الخمسة في العالم الإسلام والمسيحية واليهودية والبوذية والهندوكية وخبراء حقوقيين لوضع ميثاق عالمي للقيم لعرضه على الأمم المتحدة، وبالفعل جلسنا مطولاً وتحاورنا وفي النهاية توصلنا إلى اتفاق على الفضائل العليا للبشرية، يمكن الاستدلال لها من القرآن والإنجيل والتوراة والمهابهاراتا والفيدا وإعلان حقوق الإنسان، ولم نختلف إلا في البنود السياسية وعلى رأسها: بند تناقض الفيتو مع القيم الإنسانية، وحق الإنسان في التمرد على الحرب الظالمة، وهي في الواقع قيم سياسية لم يكن من الحكمة إدراجها في سعي نبيل كهذا.
ستقول: ولكن الغرب سيضع الإباحية الجنسية في الفضائل!
والصواب أن هذا وهم، ولدى حكماء الغرب وعقلائه ورجال دينه من النضال في سبيل العفاف ومحاربة الفحشاء مثل ما لدينا وأكثر، والفضائح الجنسية تسوق الحكام والنبلاء والمشاهير في الغرب إلى السجون، والمجتمع الغربي يخوض نضالا ضاريا ضد شركات الفحشاء عبر منظمات الأسرة والدين والمجتمع والطفولة، وما زالت الدول التي خضعت لابتزاز شركات الفحشاء قليلة ومحدودة، والذين يشرعنون هذه الممارسات الرذيلة هم في الغالب لا ينكرون خطرها ولا بشاعتها ولكنهم يرون أن من واجب القانون أن يتدخل لتقليل أخطارها ومساعدة المتورطين فيها على العودة إلى الرشاد.
لقد شاهدنا بأعيننا موقف الشعب البريطاني من تجاوزات أميره وولي عهده، والمطالبات العالية بعزله ومحاكمته، قبل مأساة الأميرة ديانا، في حين تطور الأمر في أمريكا نفسها إلى حد المحاكمة الفعلية للرئيس كلينتون، والمشهدان كانا على خلفية العبث بنظام الأسرة الذي يعتبر مقدساً عند أهل الأديان وعند سائر المجتمعات المتحضرة.
إن الوصول إلى الفضائل عبر القرآن الكريم هو أمر علمي تماماً ، وهو كذلك في التوراة والإنجيل، ولكن لا يجوز أن نفترض تناقضه مع القيم العليا التي يصل إليها أحرار العالم وشرفاؤه، وقناعتي أن البحث العلمي الحقوقي الاجتماعي سيجد تطابقاً بين القيم التي ينادي بها القرآن وبين روح الدساتير التي يحتكم إليها العالم المتحضر، وافتراض التناقض بين هذه القيم هو حاجة دوغمائية ديماغوجية أكثر مما هو مطلب أبستمولوجي.
.محمد حبش