ريما بالي – الناس نيوز ::
تبدو أمي اليوم في غاية السعادة، وجهها الوردي الجميل ينضح بالرضا والسلام، مع ابتسامة فخورة تزين محياها الذي لا يشيخ.
خير إن شاء الله؟ أسألها.
-اجت الكهربا بالليل، وقمت خلصت كل شغلي، ورجعت اجت من شوي نزلت بالمصعد تسوقت ورجعت تحممت وعملت شعري، وبعد الظهر نازلة على جلسة مع صديقاتي، اش هاليوم الرايق.
في الرابعة فجراً، شَعرتْ بالتيار الكهربائي ينساب نشيطاً في الأسلاك التي كاد يصيبها اليباس كأوردة جفت دماؤها، نهضتْ بخفة غزالة فتية إلى المطبخ لتفرم بالـ(ميكسر) البصل والبقدونس وباقي مكونات الطبق الذي كنت اشتهيه لتعده لي على الغداء، ثم نظفت السجاد بالمكنسة الكهربائية.
ضجيج الماكينات لم يزعج الجيران، أو ربما أزعجهم.. بشكل اعتادوا عليه وسامحوه، (الكهرباء في زيارتنا.. من يفكر بالنوم والراحة وحسن الجوار الآن؟).
هنا حلب.. حيث تعبر صبية بالغة الأناقة بجانب بناء محترق نصف مهدم، وحيث تحتار إن كان تناقض ألوان زينة وجهها وثيابها مع سواد الهباب الذي صبغ الحيطان، هو أمر محبط أم منعش. هنا حلب.. حيث تسأل نفسك.. هل تغلب ألوان الحياة سواد الموت؟ أم أن المعركة محسومة لصالح الدمار الذي اكتفى من الجدران العتيقة والأحجار ليتسلل إلى النفوس والأرواح، في مهمة نشيطة وسهلة تحصد في خطواتها الألوان والابتسامات والجمال.
هنا حلب.. حيث يكتسي سفح القلعة البديعة الحسن باخضرار الربيع متجاهلاً الخراب الذي يحيط به.. هنا ثنائية الموت والحياة، الكره والعشق، الحنين والنفور، العودة والهروب.
هنا حلب… وطني الذي عدت لزيارته بعد هجرة سبع سنوات.. أيام بديعة سوريالية الطابع.. نشوة أنعشت روحي وألم أدمى قلبي، ودموع لا تجف في عينيّ، دموع، دموع، دموع.
تقول أختي: ابقي هنا إن كنت تبكين فراق حلب، فأجيبها: لا معلش… ببكي وبروح. (محاكاة للحكاية الشعبية الطريفة عن العروس التي تبكي قبل مغادرتها بيت أبيها قبيل زواجها).
أهالي حلب (أهلي) يضحكون من دموعي، وأتعجب أنا من ضحكهم… يضحكون من همومهم، ويضحكون من يأسهم.. يعيشون اللحظة ويعلنون موت الغد وفقدان الرغبة بانتظار مستقبل لا يرونه إلا قاتماً، ذروة أمنيات المتفائلين منهم، ألا يأتي أكثر سواداً من الحاضر.
أهالي حلب، يرتادون المقاهي اذ يقدرون، يعملون بأجور زهيدة ويتنزهون، يغنون ويرقصون ويتابعون آخر صيحات الموضة، يطبخون ألذ الأطباق ويسمعون أفخر موسيقى ويطربون، يدبرون أمورهم بمهارة وحنكة عجيبة، ويستمرون، يائسون هم ومتعبون، وبيأسهم وتعبهم يتسلون، ويستمرون.
أعيادهم، أعراسهم، أمسياتهم… رمضانهم، أسبوع آلامهم، فصحهم وقيامتهم… أرواحهم نابضة بألوان حية في فضاءات رمادية ميتة ملبدة بالدخان والغبار والأسى.
وتغني لهم ابنتهم ميادة بسيليس، الرائعة الباقية رغم الغياب: “يا طيوب يا بو الطيبة، والله أحوالك عجيبة، صحيان وفاضي كاسك وما في شي بيعبي راسك، وغيرك عم يسكر بزبيبة يا طيوب… ايه يا طيوب”.
نعم أحوالهم عجيبة! أهم كائنات أسطورية؟ أم مخلوقات جبارة؟ أم هم كذلك لأنهم بكل بساطة… بشر… والكائن البشري بطبيعته، ميال للفرح، بدليل أنه الكائن الحي الوحيد الذي يبتسم ويضحك.
هل أن الفرح ليس إلا حاجة طبيعية تفرضها غريزة البقاء، بما أن الاكتئاب داء قاتل؟ هل هو رد فعل انعكاسي تلقائي لا إرادي لمقاومة الموت؟
جوابي الخاص هو نعم، وأذكر إذ أؤكد عليه، الشعب اللبناني، الذي واجه وما يزال حرباً ضد سلامه وفرحه، وبقي حتى اللحظة رمزاً للفرح والحياة. ومثله الشعب الفلسطيني، الذي ظلّ رغم جراحه وألمه، يغني ويبدع ويحتفل وينتج أدباً راقياً، ويقاوم ويستمر. ومثله العراقي.. ومثله المصري.. ومثله التونسي واليمني وووو…
وأتذكر في قمة يأسي، بما أننا في زمن الفصح، الرمز الإنساني الرائع الذي طرحته فكرة القيامة من الموت في اليوم الثالث بغض النظر عن البعد الديني لها: “الإنسان يقهر الموت”.. وإذ أفكر في السبيل إلى ذلك، في هذا النفق المسدود، أتذكر النسوة اللاتي جئن القبر ليدهنّ الجسد الميت بالطيوب وهن يتساءلن بحيرة: من تراه يدحرج لنا الحجر عن باب القبر؟ ولما مشين دربهن الوعرة ووصلن، كان القبر مفتوحاً.
الإنسان.. قد يكون الكائن الوحيد الذي يموت أكثر من مرة ويرجع إلى الحياة من جديد، بعد أن يزيح الحجر الثقيل عن فوهة القبر.. أليس هو من حوّل معاناته فنّا ونشوة؟ إذ صاغها موسيقى وأدباً وشعرا.. وألواناً على سطح لوحة.. ومسرحاً ورقصاً وجمال؟
وأتساءل عن الغاية من ابتداع أسطورة طائر الفينيق في الميتولوجيا الإغريقية، بوجود تلك الخصلة المتأصلة في النفس البشرية عامة، (وفي الإنسان السوري خاصة)، الذي يقوم من تحت رماده كل يوم عدة مرات، لترفرف أجنحته الطروبة المشعة في الفضاء.
وهل أجمل وأروع من العبقري محمود درويش؟ حين وصف هذه الحالة الإنسانية الفذّة بقصيدته البديعة:
نَحْنُ نُحِبُّ الحَيَاةَ إذَا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلاَ
وَنَرْقُصُ بَيْنَ شَهِيدْينِ نَرْفَعُ مِئْذَنَةً لِلْبَنَفْسَجِ بَيْنَهُمَا أَوْ نَخِيلاَ
نُحِبُّ الحَيَاةَ إِذَا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلاَ
وَنَسْرِقُ مِنْ دُودَةِ القَزِّ خَيْطاً لِنَبْنِي سَمَاءً لَنَا وَنُسَيِّجَ هَذَا الرَّحِيلاَ
وَنَفْتَحُ بَابَ الحَدِيقَةِ كَيْ يَخْرُجَ اليَاسَمِينُ إِلَى الطُّرُقَاتِ نَهَاراً جَمِيلاَ
نُحِبُّ الحَيَاةَ إِذَا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلاَ
وَنَزْرَعُ حَيْثُ أَقمْنَا نَبَاتاً سَريعَ النُّمُوِّ، وَنَحْصدْ حَيْثُ أَقَمْنَا قَتِيلاَ
وَنَنْفُخُ فِي النَّايِ لَوْنَ البَعِيدِ البَعِيدِ، وَنَرْسُمُ فَوْقَ تُرابِ المَمَرَّ صَهِيلاَ
وَنَكْتُبُ أَسْمَاءَنَا حَجَراً ’ أَيُّهَا البَرْقُ أَوْضِحْ لَنَا اللَّيْلَ ’ أَوْضِحْ قَلِيلاَ
نُحِبُّ الحَيَاةَ إِذا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلا…
نعم.. نحب الحياة.. وإن ضاقت بنا السبل إليها.. نحب الحياة ونستحقها بأبهى صورها.
أعيادكم مباركة.