طارق علي – الناس نيوز ::
“قلت لنفسي مليون ليرة مبلغ ممتاز، سأستأجر به شقة مفروشة في العاصمة دمشق، وأقطن بها أنا وزوجتي، والسوري يعلم جيداً ماذا يعني مبلغ مليون ليرة، وهو حصيلة رواتب عام كامل لموظف حكومي، ولكن ما ليس يدريه أنّ مليون ليرة لا تستأجر له اليوم شقة سوى في منطقة مغرقة بالشعبية أو منطقة مخالفات”.
يقول المهندس ممتاز الحكم في معرض حديثه لجريدة “الناس نيوز” الأسترالية الالكترونية، حول رحلته لاستئجار منزل في العاصمة، “أنا كنت أقطن في منزل أختي التي كانت خارج البلد، ولكنّها عادت مؤخراً لذا توجب عليّ تأمين منزل بديل للسكن، ولكنني فوجئت، فكيف يمكن أن يصل أجار عقار في دمشق لعشرة ملايين شهرياً، والأسوأ أنّ كلّ أصحاب العقارات لا يقبلون إلا بدفع سنة سلف، أي ذاك المنزل سيكون أجاره 120 مليون ليرة سنويا، وسأدفعهم دفعة واحدة، هذا المبلغ قبل عدة سنوات كان يشتري حي بحاله”.
ويضيف الحكم: “بالطبع ليس معي هذا المبلغ، فكان أمامي عدة خيارات بديلة، منها حي المزة 86 في دمشق، وأنت تعلم أنّ الحي مخالف عمرانياً وسيء تنظيمياً للغاية والسكن فيه أمر صعب للغاية إلا لمن هو مضطر فوق العادة، فرحت لخيار آخر وهو الريف القريب من دمشق كببيلا وبيت سحم وغيرهم، ولكن هناك تكاد تكون الخدمات شبه معدومة، لذا اتجهت إلى جرمانا بوصفها منطقة ريفية فاعتقدت أنّ الإيجارات ستكون معتدلة بها، إلا أنّ البيت الذي يصلح للسكن ويكون غرفة وصالون فقط لن يكون أجاره أقل من 800 ألف ليرة، والجيد أنّه لا يوجد دفع سلف، فاستأجرت ذلك المنزل على مضض، بعد أن تفوهت همساً بعبارات لا تبق ولا تذر على الحكومة الصامتة أمام فقر شعبها وذلّه، 800 ألف يا الله، 800 ألف ثمن سكن بين أربعة جدران في وطن لا حقوق لك فيه إلا بكم فمك طواعيةً”.
معادلة مستحيلة
رحلة ممتاز ليست استثناء في يوميات السوريين الباحثين عن مأوى، أولئك الذين تعددت أسبابهم، بين من فقد منزله حرباً، أو رحل للعاصمة بحثاً عن عمل، أو أخلي من منزله لأسباب مختلفة، إلا أنّ الجامع بين أولئك كلهم هو إيجاد حل للمعادلة التي تستوجب منهم أن يقضوا عمرهم مستأجرين دون بارقة أمل بأن يمتلكوا يوماً منزلاً، وامتلاك المسكن في دول كثيرة هو أدنى حقوق المواطنة، كما تقول الوقائع حول العالم.
العالم الذي انفصل عنه السوري ذو الدخل الذي يعادل 10 دولارات والمصروف الشهري الذي يتخطى مئتي دولار في علاقة غير مفهومة ولا مشروحة ولا يمكن توصيفها اقتصادياً حتى، فها هو رئيس اتحاد نقابات العمال بما يمثله من سلطة قال مؤخراً إنّ دخل المواطن سيء جداً ولا يكفيه أبداً، فماذا فعلت الحكومة؟ لا شيء، يقول المواطنون: حتى إنها كادت تفرض رسوماً على شرب المياه.
البحث عن الاستقرار
إذن هي معضلة مركبة يعيشها السوريون وتتمثل بالارتفاع المهول للإيجارات السكنية في عاصمة جزء كبير من سكانها غير ملاك، ما يحملهم عبئاً لا يمكن التعايش معه أو تحمله، مضطرين لتحمل الفقر والحاجة والعوز والعمل بعمل واثنين وربما ثلاثة لتأمين جدران تأوي أيامهم الحزينة في ظل صمت رسمي، رقابي، أخلاقي مطبق يجعلهم شركاء في جريمة قهر السكان محيلاً إياهم لمقولة يستذكرها السوريون جيداً عن الراحل مؤسس الامارات الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان حين تفاجئ بوجود أناس إماراتيين يسكنون بالإيجار موعزاً بمكافحة الظاهرة جذريا ودفع الجميع للتملك فوراً، قائلاً حينها في كلمة فيديو مسجلة: “كيف يسمح حاكم لنفسه أن يسكن شعبه بالإيجار”.
وبهذا القياس، سوريون يريدون أدنى من القليل ولا يحصلون عليه، فإن تأقلموا على الجوع، كيف سيتأقلمون مع فكرة الرحيل المستمر بين منزل وآخر؟، علماً أنّ الآراء التي تصب في خانة علم النفس تقول إنّ الاستقرار السكني هو أحد أبرز عوامل الاستقرار النفسي والإنتاجي والإنساني وليتكمل مشهد الغرابة، فإن أراد سوريٌّ زيارة عيادة طبيب نفسي، فإنّه سيدفع قرابة 50 ألف ليرة ثمناً للمعاينة، فمن أين سيلقاها السوري؟
نتائج نسبية
لم تجد جريدة “الناس نيوز” خلال بحثها جهة تصدر إحصائيات دقيقة تتعلق بتعداد البيوت المتاحة للإيجار، علماً أنّه من الممكن رسمياً إحصاء الأمر عبر العقود التي تنظم في البلديات بين المؤجر والمستأجر بشكل دوري، والتي تتطلب مسبقاً موافقةً أمنية بغض النظر عن المنطقة.
إلا أنّ “الناس نيوز” توصلت لنتائج نسبية يمكن تقسيمها على شكل استنتاج، فأعداد كبيرة من السوريين هاجروا إلى الخارج وعهدوا لأقاربهم في الداخل بتأجيرها، وآخرون غادروا دمشق خلال الحرب وعادوا لمدنهم الأساسية أو قراهم التي ظلت بعيدة عن الحرب، وكذلك يؤجرون منازلهم، عدا عن فئة تمتلك أكثر من منزل، فتسكن بواحد وتؤجر الآخر أو البقية.
جرمانا كمثال
وبالقياس والمسح والسؤال على الأرض في مدينة جرمانا بريف دمشق، وهي المدينة الأكثر اكتظاظاً في ريف دمشق، بواقع حوالي 3 ملايين ساكن، من مختلف المناطق السورية، والذين جاؤوها خلال الحرب، سيما من أرياف دمشق (دوما – حرستا – بيت سحم وغيرهم)، أو من حمص وحلب ودير الزور والأخيرون نسبتهم كبيرة نسبياً، كل ذلك أدى لتخلخل ديمغرافي واضح في المدينة التي كان يسكنها قبل الحرب مسيحيون ودروز مع أقلية مسلمة لا تذكر، أما اليوم فهناك أحياء بأكملها تقريباً من المسلمين، ولذلك فعلى الأقل ثلثيها يتم تأجيره بكل ما تمثله من ضخامة وامتداد عمراني بأسعار تبدأ من 300 ألف لمنزل غير مفروش وسيء جداً وصولاً لمليون ونصف ويكون مفروش وفي حي جيد.
وليكتمل التغيير في بنية المدينة كثر من الوافدين إليها اشتروا فيها منازلاً ثم غادروها حين انتهاء الحرب في مدنهم وبلداتهم وتركوا تلك الشقق متاحة للإيجار.
سوريا المصغرة
يقول ماهر حرب أحد أصحاب المكاتب في مدينة جرمانا لـ “الناس نيوز”: “كثرت الرجل الغريبة في مدينتنا، قبل عشر سنوات لم يكن هكذا الحال، كان تقريباً كل الناس يعرفون بعضهم، ولم تكن جرمانا بهذه الضخامة وهذا الاكتظاظ، ولكن سنةً تلو الأخرى في الحرب توافد عشرات الآلاف من مناطق مختلفة وديانات مختلفة إلى المدينة، حتى صارت غريبة عن نفسها، وهذا لا يعني أننا لا نرحب بهم، فهذه بلدهم، ولكن ما حصل في جرمانا هو تغيير تام بالنسيج التاريخي لها، وكثير من الناس أولئك حين عادوا إلى مدنهم طلبنا منهم شراء شققهم فرفضوا وقالوا إنهم يريدون تأجيرها، وبطبيعة الحال لا يهمهم المستأجر ولا نوعيته ولا أخلاقه، والدليل انظر إلى ارتفاع حجم الجرائم والمشاكل والمخدرات في مدينتنا”.
ويضيف: “نحن كأصحاب مكاتب لا نرفع الإيجارات، ما يرفعها هو أنّ كمية الطلب أكبر من العرض بأضعاف، سيما في العامين الأخيرين أولئك الذين يهربون من غلاء دمشق إلينا، فيستفيق صاحب شقة في جرمانا صباحاً ويقول لك أريد مليوناً بمنزلي، وهو رقم غير منطقي وغير معقول، ولكن يتم تأجير المنزل بعد ساعات، هل ثمة ما هو أغرب؟”.
ديمغرافيا الحرب
حاولت جريدة “الناس نيوز” جاهدةً استحصال إحصائية تقديرية في دمشق، لكنّ الأمر صعب للغاية، نظراً لاتساع العاصمة وتمددها، ولكن على الأقل يمكن رصد آلاف العروض شهرياً.
أما في مدن كحمص وحلب فنسبة الإيجارات منخفضة كثيراً عما هي عليه في العاصمة وجوارها، ذلك أنّ معظم سكان تلك المدن ملاك عبر الزمن، إلّا طلبة الجامعة القاصدين جامعاتهم للدراسة.
وفي حلب وحمص أيضاً يختلف أمر النزوح عن دمشق نسبياً، فقد نزح المهجرون إلى دول الجوار ولم يعودوا، أو هاجروا إلى بلدان بعيدة، ولم يعودوا أيضاً، ومن نزح داخلياً فقد عاد لمدينته بعد انتهاء الحرب، سواء عادوا مستأجرين أو مرممين لمنازلهم ما لم تكن سويت بالأرض خلال المعارك، وفي الحالين، وتحديداً حمص، تبدو تلك المدينة المدمر نصفها خالية من السكان إلا في أحيائها التي لم تدخل على خط النار.
ولكن الأكيد أنّ اختلاطاً ديمغرافياً رهيباً اجتاح المدن السورية، فليس من اليسير الحديث عن كمية الدمار في المدن وأريافها، دون ذكر التبدلات التي طرأت على أحوال المجتمعات الآمنة والتي جعلتها مختلطةً قياساً بالانغلاق الذي كانت عليه قبل الحرب، ففي حمص مثلاً نجد أحياء كانت حكراً على طوائف معينة قبل الحرب، اليوم صارت أسواقها مشتركة بين طوائف متعددة، وكذلك حي المزة 86 في العاصمة، والذي وسم تاريخياً بالحسبان على لون سوري معين، صار اليوم بحسب تقديرات أخصائيين يقطنه أكثر من النصف من ألوان سورية مختلفة ومدن بعيدة.
الدمار في سوريا
بحسب تصريح لوكيل الشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ بالأمم المتحدة، مارتن غريفيث، فإن “الدمار الذي شهدته سوريا لا مثيل له في التاريخ المعاصر”.
ووفق معهد الأمم المتحدة للبحث والتدريب (UNITAR) وفق دراسة نشرها عام 2019، وتعتبر من أواخر الدراسات التي صدرت في هذا الشأن، ويمكن القول إنّ السنوات التي تلت 2019 لم تحمل معارك فعلية يمكن الحديث خلالها عن دمار جديد واسع، باستثناء الزلزال الذي ضرب سوريا في السادس من فبراير/شباط 2023.
المعهد قال إنّ أكبر نسبة دمار في الحرب السورية كانت من نصيب محافظة حلب ليبلغ مجموع المباني المتضررة 35722.
وفي مدينة عفرين في ريف حلب الشمالي مجموع المباني المتضررة 196. أما في مدينة منبج شمال شرق حلب مجموع المباني المتضررة 1198. وفي مدينة عين العرب مجموع المباني المتضررة 3247.
وفي إدلب فإنّ مجموع المباني المتضررة 1415. أما في شمالي شرقي سوريا فهناك 3326 مبنى مدمراً كلياً في محافظة الرقة، و3962 مبنى مدمراً بشكل بالغ، و5493 بشكل جزئي، ليكون مجموع المباني المتضررة 12781.
وتحدث المعهد عن وجود 9459 مبنى مدمراً كلياً في محافظة حماة، و404 مبانٍ مدمرة بشكل بالغ، و666 بشكل جزئي، ليكون المجموع 10529 مبنى متضرراً.
وفي محافظة حمص مجموع المباني المتضررة 13778. وفي مدينة تدمر الأثرية، التابعة لمحافظة حمص، مجموع المباني المتضررة 651.
أما في غوطة دمشق فقد تدمر ما قدره 34136 ألف منزل، وفي مخيم اليرموك والحجر الأسود 5500، وفي الزبداني وجوارها 3300 منزل مهدم.
علماً أنّ السنوات التسع الأولى من الحرب بحسب صحيفة “الشرق الأوسط” حملت خسارةً تقدر بنحو 530 مليار دولار للحكومة السورية، وخسارة 40 بالمئة من البنى التحتية مع تهجير نحو 14 مليون سوري، ومقتل عدد آخر تختلف حوله التقديرات
لما سيعود اللاجئون؟
يستغرب سوريون كثر الطرح الدولي، العربي أو المحلي حول إعادة اللاجئين إلى سوريا، فحين يكون الحديث عن 14 مليون لاجئ فالأمر يحتاج ترتيبات من نوع يتطلب وفرة في الوقت والجهد والمال والدعم والإعمار، وكل تلك الأشياء لا تبدو متاحة في الظرف الراهن، فحتى إن أطلق مشروع “التعافي المبكر” فكم سيغير من المعادلة؟، الذي سيغير من المعادلة هو الاستقرار التام والشامل والوفرة في المال والمسكن والخدمات مشفوعاً بأهم ما في الأمر، وهو رغبة اللاجئين بالعودة أساساً.
فإن كان ملايين السوريين يعيشون في الداخل الآن دون كهرباء وخدمات ومع فقر تقول الأمم المتحدة إنّه أصاب 90 بالمئة منهم وجعلهم تحت خطه، فكيف الحال بالمزيد من السوريين ما لم تهيئ أرضية مناسبة ولائقة لعودتهم خارج أوراق الاستثمار السياسي والانتخابي؟
وحتى ذلك الحين يبقى سوريون كثر يقبضون على قلوبهم مع بداية كل شهر حين يدق باب منزلهم طلباً للإيجار القابل للارتفاع كل شهر، أو أن يفعلوا كزميل لنا ترك منصبه الإعلامي في دمشق تحت وطأة ارتفاع إيجار منزله مغادراً إلى قريته في جبلة ليزرعها ويعيش من خيرها.