غادة بوشحيط – الناس نيوز :
إن طريق النجاح دائما ما تحفه العثرات حتى ولو كان اسم سالكه “لودفيغ فان بيتهوفن”.
1_ بدا جمهور فيينا هذه الليلة غير راض عن بيتهوفن تماماً، لحظت ذلك أنا فرديناند رايس صديق وتلميذ المايسترو من مكاني في ظل إحدى الغرف خلف المسرح، رفض أستاذي التجاوب مع التصفيقات الفاترة داخل القاعة، ولا بحركة من رأسه، ظل متسمراً أمام الأوركسترا وملامح الغضب مسيطرة على محياه، إلى جانبه صاحب فكرة هذا الحفل، الكونتزرمايستر فرانتز كليمون، عازف الكمنجة الأول الذي ظل يراوح مكانه عاجزاً عن إخفاء إحراجه. ولكن ما السبيل لتفادي سخط الأستاذ أمام عدم فهم الجمهور لهذه السمفونية التي كنت قد رافقت جميع مراحل صنعها؟ برهة من الزمن اختزلت أبعادا غير معقولة وذكاء خارقاً طبع الإيرويكا، السمفونية الوحش، التي ستقلب قوانين الموسيقى.
2_ نحن في يوم السابع من أبريل/نيسان 1805، سنتين يوماً بيوم تقريباً منذ الحفل الأول الذي قدمه بيتهوفن في القاعة ذاتها “تياتر أن در فاين”. دائما ما تشكل سهرة كهذه حدثاً عظيماً بالنسبة لجمهور “فيينا”، خصوصاً منذ أن أصبح عالم الملحنين الموهوبين والعازفين العباقرة متاحاً لجمهور أكبر، أكثر برجوازية من ذي قبل، حين كان حكراً على الأمراء، وأبناء الطبقات العليا، داخل قصورهم. صارت فرص الاستماع لآخر الإصدارات للأسماء الموسيقية الكبيرة متاحة مقابل شراء تذكرة، واسم بتهوفن كان يحظى بسمعة قوية، بل إن الجماهير تتابع جديده. عد لودفيغ وريثا لهايدن وموزارت، أفضل موسيقيي الغرف والكونشرتو، لذلك فصدور سمفونية جديدة له تعد أمراً عظيماً. في مساء ذلك اليوم، أراد منه الجمهور ألا يحيد عن ذلك الإرث الفييني العظيم، أن يصيغ أشياء بنفس توازنه ومعياريته. لكن بالنسبة لعبقري من طينة فان بيتهوفن، تجاوز الثلاثين بالكاد، لم يكن ذلك القدر الذي يريده. كنت قد لاحظت من فترة أنه ينمي داخله طموحات أخرى. سنة 1802 كان يكرر على مسامعي: “لست سعيداً بما كتبته حتى الآن، على أن أفتح سبلا جديدة”.
3_كانت السمفونية الثالثة أو “الإيرويكا’ (البطولية) ما رسم ملامح هذا الطريق الجديد، ولكن لم يكن ذلك بمستوى تذوق مستمعي حفل يوم 7 أبريل/نيسان، لم يبد أن “بيتهوفن يعزف بالسرعة المطلوبة”. أظهر الجمهور نفاذ صبره منذ المقطوعة الأولى، تغامزوا متسائلين، لم يعهدوا لا مع هايدن ولا موزارت بهكذا موسيقى، لم يسبق أن تجاوزت مقدمة سمفونية العشر دقائق. ظل الجمهور يتابع بامتعاض واندهاش التطورات الدرامية لهذا “durchfuhrung” أو تتابع النوتات هذا الذي يأبى الانتهاء. أما بعد ربع ساعة فصار الانزعاج بادٍ على وجوه الحاضرين. تصاعدت الانتقادات في الأيام التي تلت سمفونية “قاصمة”، “غير مترابطة”، تربط “بين أفكار لا صلة بينها وغير موزونة”، “مجرد تراكم لأفكار عظيمة”، أشبه بـ “تخبط استمر لفترة من الزمن”. لم تحسن المقطوعة الثانية والتي عنوانها “Adagio” من الأمور، مسير جنائزي رائع استمر لربع ساعة هي الأخرى، أطول من الـ ” Allegro” التمهيدي.
4_حتى قبل انطلاق المقطوعة الثالثة منها كانت هذه السمفونية الأطول في تاريخ الموسيقى، لم يسبق لها مثيل. تساءل الجمهور الذي بدا تائها على طريق الموسيقى الجديد هذا، عن كيف ستكون الحركة أو المقطوعة الرابعة والأخيرة منها. حتى ناقد مجلة “إنجماين موزيكاليش تزايتونغ” التي تصدر بمدينة “ليبتزيغ” بدا غير راض عن هذه السمفونية، بل رأى فيها “فشلا ذريعا ..هذا اللحن الطويل والصعب جداً هو في الحقيقة فنتازيا متوحشة، جريئة […] لا تخلو من فقرات رائعة، كما فقرات جميلة، علينا أن نعترف بالعبقرية الخلاقة لصاحبه، تبدو وكأنها فقدت الطريق الذي رسم لها في غياب تام لقواعد الكتابة الموسيقية…”، كان هذا الناقد حتى ذلك اليوم من أشد معجبي بيتهوفن، لكن الخطوط الغريبة التي طبعت مؤلفه الجديد هذا، بألوانه الزاهية، كسرت وحدته ما شكل عائقاً أمام إدراكه كما ينبغي.
5_ “لا يمكن اقتطاع أي جزء منها”، تلك كانت إجابة الأستاذ بيتهوفن لكل من سولت له نفسه تقديم ملاحظات حول حجم هذه السمفونية، بل أن المشككين بها سيجدونها قصيرة يوم سيكتب أخرى أطول منها، وهو الأمر الذي حققه. كانت نزعة التحدي الممزوجة بنوع من الغرور كثيراً ما تسبب الأذى للودفيغ، الذي حاول كثيرون تحجيمه في هاتين الصفتين دون فهم لعمق طرحه. أنا أيضاً كثيراً ما دفعت ثمن كبريائه، أذكر إحدى بروفات هذه السمفونية الثالثة، حدث ذلك شهر أغسطس/آب 1804، قبل أن تعرض أمام برجوازيي فيينا. كنا بقصر الأمير لوبكوفيتز، راعي وصديق الموسيقار. كانت المرة الأولى التي ستؤدى فيها “الإيرويكا” أمام الأمير وحاشيته حصراً، كما جرت العادة. في ذلك اليوم ونحن نردد المقطوعة الأولى منها، خلت للحظة أن عازف البوق قد بدأ عزفه في غير وقته، عند نقطة حاسمة من المقطوعة الثانية. كنت على مقربة من بيتهوفن في ذلك الحين وصرت أقول: “عازف بوق غبي.. هل أعطيت الإشارة؟ ألم يكن بمقدوره أن يعد؟ أليس نشازاً ما يفعل؟” أظن أن أستاذي قد ضبط نفسه حتى لا يصفعني حينها.
6_ الحقيقة أن بيتهوفن كان يمر بأزمة حادة خلال هذه الفترة، حميمة وسرية، كمن وجد نفسه في مفترق طرق فجأة. بدأت العلامات الأولى لصممه تظهر، صار لا يسمع بعض الأصوات. وللأسف فقد آخر أمل في استعادته بعد قضائه لعطلة لهذا الغرض بريف “هايليجنشتادت”. طرق اليأس بابه، بدأ يفكر بالانعزال، بل حتى بالموت… أما نحن فلم نعرف بمشكلته حتى بعد زمن، حين اكتشفنا هذا النص الذي وضعه بين كومة أوراقه: “آه، أنتم من تظنون أني شخص حاقد، عنيد، بغيض، من تجعلونني أبدو كذلك، كم أنتم ظالمون. تجهلون السبب الخفي الذي يجعلني أبدو كذلك. لطالما انحنى قلبي وعقلي أمام المشاعر الرقيقة، منذ طفولتي. آه، كيف أعترف بالأمر؟ ضعف أحد حواسي، الحاسة التي وجب أن تكون على درجة عالية من الكمال مقارنة بالبقية، حاسة كنت أمتلكها، كانت كاملة كمالا قل نظيره لدى الموسيقيين”.
7_ “إنه الفن، الفن وحده ما حال دون وقوعي…” كان يصرخ. لقد كانت هايليجنشتادت بالنسبة لبيتهوفن المكان المقدس، فقد تفكر فيها في أمر الموت كحل ممكن لمشاكله ولكن محرج، عرج فيها على شكوكه الكثيرة، على هاوية كاد يسقط فيها. حين غادرها كان أكثر ثقة من أي وقت مضى بالحياة، كما ليقدم للعالم كل الأمور التي أحس بها تنمو في داخله “حبا في الإنسانية وفي فعل الخير”. أراد بيتهوفن أن ينقض على القدر ويمسك به من رقبته، أن ينهض من جديد، ويكمل مؤلفه الكبير الذي كان قد بدأه. في هذه الأوراق التي جلبها من “هايلجنشتادت” خطت الشذرات الأولى لما أصبح يعرف بالسمفونية الثالثة كدليل، إذا استوجب الأمر دليلا، على الحيوية الاستثنائية التي ميزت هذا الرجل الذي عاد من الهاوية لتوه، بمقطوعات أربع كل واحدة منها تعبر عن حركة من حركات روحه، الأولى: الثقة العمياء بعبقريته، الثانية: السقوط المميت، الثالثة والرابعة العودة وتجاوز نفسه.
8_ لحسن الحظ، كان استقبال الجمهور الأرستقراطي بقصر الأمير لوبكوفيتز حماسياً، كما دأب الحال دائماً لأجل بيتهوفن حد تقديسه، كان ذلك أيضاً حال الأمير الصغير لوي فرديناند البروسي، أحد أهم أسماء تلك المرحلة، الذي حضر للاستماع لسمفونية “الايرويكا” ثلاث مرات كاملة في ذلك الصيف الذي قضاه في فيينا. أخيرا وجد أستاذي شخصاً يمتلك آذانا خلقت للاستماع، موسيقي حقيقي، وجندي حقيقي أيضاً. من المؤكد أنه ود لو تهدى له هذه السمفونية خصيصاً، هو الذي توفي أشهراً بعد ذلك، سقط بطلاً في ساحة المعركة في سانفالد، أمام الجيوش الفرنسية بقيادة الماريشال لانس، قائد أحد الفيالق الثلاث لجيش نابليون العظيم حين اجتاح بروسيا.
9_ يا للسخرية، إنها سخرية بطعم الفضيحة، وجه نابليون بونابارت البطولي الذي لطالما سكن مخيلة بيتهوفن سنة 1803، والتي ألف خلالها الجزء الأهم من سمفونيته الثالثة. رأيت أنا بنفسي كما الكثيرين من أصدقائه الحميمين، كراس نوتاته على الطاولة، في أعلى الورقة كتب اسم “بيونابارت Buonaparte” وأسفله “لويدجي فان بيتهوفن” ولا كلمة أخرى. أتذكر ذلك جيداً كما أن أمر إظهار الاسم على تلك الورقة كان أمراً واعياً ومقصوداً من أستاذي، بدى لي ذلك جلياً. إنه تشريف كبير للقنصل الأول الفرنسي. كان بيتهوفن يتابع بكثير من الحماسة والشغف أحداث الثورة الفرنسية، وكان الأمر يثير فيه الكثير من الحماس، مثاليته جعلته يؤمن بهذا “البونابارت الخارق” الذي عرف كيف يفرض النظام العام ويحله مكان الخراب في سنوات قليلة على أسس جمهورية، على الأقل ذلك ما بدى. تأمل أستاذي كثيراً في الجديد الذي كان نابليون بونابارت يحققه، شيئا يشابه جمهورية أفلاطون، دولة حرة، حكماً يمكن لأي شخص أن يصل إليه من خلال الانتخاب، شيء بإمكانه إرساء قواعد السعادة للنوع البشري… ربيع 1804، حين أنهى بيتهوفن مؤلفه، كانت النمسا في سلام مع فرنسا بفضل معاهدة “لونيفيل” التي وقعت ثلاث سنوات قبل ذلك ولم يكن “نابليون” وقتها إلا قنصلا أول.
10_ كنت أنا أول من نقل لـ بتهوفن خبر إعلان بونابارت نفسه إمبراطورا، أمر لم يهتم لتتبع المراحل التي سبقت الكثيرون في فيينا، عصف الخبر بأستاذي الذي شعر بخزي عميق، خائباً، دخل نوبة غضب شديدة كنت الشاهد الوحيد عليها، وصار يصرخ “في النهاية ليس إلا رجل كغيره، سيدوس على حقوق الإنسان بالأقدام ولن ينصاع لغير طموحاته […] سيتحول إلى طاغية”، ثم توجه نحو الطاولة حيث كان دفتر نوتاته وقام بتمزيق الصفحة الأولى حيث اسم بونابارت ثم رمى بها إلى الأرض، عند قدميه.
11_ اختار أستاذي أن يهدي العمل لراعيه الأمير لوبكوفيتز شديد الكرم وأهل للثقة، فقد جرت العادة أن يهدى العمل لشخص معين. أعيدت كتابة الصفحة الأولى وحظيت السمفونية لأول مرة بعنوان “سمفونيا غراندي إيرويكا symphonia grande Eroika”، وتحت العنوان الكبير خط بيتهوفن الملاحظة التالية “احتفاءً بذكرى رجل عظيم”، كما لو أنه قرر أن انطلاقا من تلك اللحظة، ومهما حدث فيجب أن تقترن هذه السمفونية بفعل عظيم… زخم هذا المؤلف، طيف العواطف التي جعلتها تنبثق، كل شيء فيها له اتسم بعظمة غير مسبوقة، بقوة تدفق بروميثية.
12_ إنه هو، بروميثيوس، البطل الحقيقي والشخصية الأسطورية هي من كان يتمثل فيها أستاذي نفسه، وهو من ينطبع في كل حركة من تلك السمفونية، بروميثيوس ذلك العملاق، خصم آلهة الأولمب، الذي تجرأ على سرقة النار وإهدائها للبشر، ليصحح بذلك ضعفهم الطبيعي في مواجهة خلائق الأرض، بروميثيوس ذلك الكائن الوحداني، الذي عرض نفسه إراديا للعقاب الإلهي حبا في البشر. بدى انطباعه على السمفونية الجديدة جلياً في أكثر من حركة وخصوصاً في خاتمته، على الرغم من أن لودجي قد أصدر سنة 1800 باليه “خلائق بروميثيوس”، لكنه بقي مهووسا به.
13_ ظل نابليون الملعون والذي بقي مخيماً على السمفونية الثالثة، لم يكن مجرد شيء عابر. إني أشك أن يكون أستاذي قد شعر بالإحراج اتجاه ذلك الإهداء الذي خصصه لـ نابليون، إحراج لأنه منح فخر أمر مماثل لروح أخرى غير روحه هو. حين سمع أستاذي بوفاة نابليون سنة 1821 على جزيرة “سانت هيلين”، أسر لي متحدثا عن مقطوعة “مشية الموت”: “منذ سبعة عشر سنة كتبت الموسيقى الأنسب لهذا الحدث الحزين”، لا أظن أن هذه الكلمات كانت إعادة إهداء للإمبراطور، ولكني أرى فيها وعياً، بسيطا ومشرقا بعبقريته هو لودفيغ فان بيتهوفن الخاصة.
مجلة “كلاسيكا” الفرنسية، عدد رقم: 234 (أغسطس/آب 2021)
ترجمة: غادة بوشحيط