خاص – الناس نيوز ::
الاعتراف بالفشل من مناقب الشجعان الذين لا يضيعون الوقت بالندب واللطم، ولا يتوقفون عن عصف أذهانهم من أجل تحييد المعوقات التي تقف في وجه محاولات البحث عن حلول جديدة، والتفكير في مختلف البدائل، ومراجعة الأخطاء للوصول إلى محاولات تغيير أكثر نضجاً وديمومة. فغالباً ما تُحدث التطورات الاجتماعية العنيفة، كأحداث “الربيع العربي” حالات نكوص ارتدادية تالية بسبب الفوضى والخوف من المجهول، فحتى تونس لم تنجُ من مثل هذا الارتداد، مع أن النموذج التونسي مثَّل استثناءً في “الربيع العربي”، كما قبله. لكن تونس قد لا تتأخر في العودة إلى المسار الديمقراطي، لأن ثمة تحولات اجتماعية مهمة كانت قد تكرست خلال عقود.
أما الحديث عن أن “العالم خذلنا” فهو أسلوب من يريد الهروب من الواقع والمسؤولية، فحتى لو “ساعدنا” أحد ما في هذا العالم، فسيفعل ذلك على طريقته وبما يناسب مصالحه، وسنعود مرة أخرى لاجترار مشكلاتنا، ما لم نمتلك مشروعنا التغييري الوطني الخاص، القائم على أفضل ما توصل إليه علم الاجتماع والسياسة، فالوقت ليس لصالحنا، ومن أجل ذلك نحتاج إلى جهود الجميع، سلطات ومعارضات ومجتمع مدني وأفراد.
فمع أن مصالح الأنظمة العربية متفقة بصورة عامة، لكنها غير متطابقة، وقد تدفع الضغوط الداخلية والخارجية لأن يتم التغيير من قبل السلطة ذاتها، كخطوات تحرر المجتمع من أبرز معيقات تطوره وتحول دون انفجاره، وهنا تبرز أهمية إصلاحات محمد بن سلمان ونتائجها المبهرة في عدة سنوات، كونها تتلاءم وحاجة المجتمع السعودي للانتقال إلى مرحلة جديدة. مقابل ذلك، تبدو أنظمة أخرى، لطالما ادعت التحرر، وهي تتسول دعم أكثر الأوساط الدينية رجعيةً في محاولة لتمديد صلاحيتها.
ولا تتعارض هذه التباينات مع وجود توافقات عامة بين الأنظمة العربية من جراء قوة المشتركات والمصالح التي لا تفسدها المناكفات “القبلية” من وقت لآخر، فمن مصلحة النظام العربي ككل لمّ شمل أعضائه وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل أحداث “الربيع العربي”، ولو بصيغة هزلية، مثلما يفعل التاريخ عادةً.
يمكن القول الآن بأن معظم الأنظمة العربية لم تتغير لأن الظروف الداخلية لم تكن ناضجة ليتم التغيير بالطريقة الثورية السابقة، بسبب ضعف الوعي الديمقراطي، لذلك لم يتعدى التغيير، إن حدث، إحلال طرابيش جديدة مكان القديمة على الرؤوس المنخورة ذاتها. أما التغيير المجدي فهو التغيير القائم على تحولات اجتماعية تدريجية في الوعي العام، بما في ذلك استخلاص العبر من التجارب السابقة، ما يسمح بإمكانية تبلور مجتمع مدني منظم يمكن أن يتصدى لعملية التغيير.
ففي بلداننا التي دمرها الاستبداد لم تكن المعارضات أفضل حالاً من الأنظمة، وقد تسنّى لي متابعة أنشطة المعارضين والمشاركة فيها منذ بداية الحراك الشعبي الأخير في سوريا، فأنا محسوب عليهم في النهاية، ولو أنني بقيت على هامش مؤسساتهم، التي ما إن كنت أقترب منها حتى أنفر، كما كانت حالي في العمل مع مؤسسات النظام، حيث الممارسات لا تختلف بصورة نوعية، إلا في كون شخصيات المعارضة قادرة على التنصل من المسؤولية طالما ليست في سدة الحكم، وطالما هي في موقع الضحية فلا تظهر ممارساتها التسلطية.
ولم تختلف الاجتماعات في مؤسسات المعارضة كثيراً عن اجتماعات البعثيين، إلا بغياب شعار “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”، الأمة التي لا وجود لها إلا في أحلام يقظة زكي الأرسوزي وميشيل عفلق. كما لم تنته الاجتماعات بلازمة “الخلود لرسالتنا”، رسالة العروبة التي اختلفت مع رسالة الإسلام على أي منهما يُلبس الآخر عباءته، وكيف يمكن أن تنام الرسالتان تحت خيمة واحدة من دون أن تقتتلا بشراسة.
وفي أثناء الاجتماعات مع مسؤولين أجانب، كنت أنتبه إلى تلك التفاصيل التي تجعلنا نبدو، أو نكون بالفعل، أقل حضارية منهم، انطلاقاً من قناعتي بأن هذه التفاصيل الصغيرة مرتبطة على نحوٍ وثيق بالعمل على تحقيق الانجازات الكبرى. على سبيل المثال، حين تسمح لنفسك بالتدخين في الأماكن العامة المغلقة يعني ببساطة أنك لا تعرف الحد الذي تتجاوز فيه ما هو خاص فتتسبب بأذى الآخرين، وحين تبالغ في مدّ يدك إلى أطباق الضيافة هذا يعني أنك يمكن أن تمد يدك إلى حقوق وأرزاق الآخرين، ومثل ذلك أيضاً حين تأخذ وقتاً أكثر من غيرك في الحديث وتحرم الآخرين من حقهم في المشاركة والتعبير عن رأيهم.
لم أقصد بما أوردته من أمثلة إعطاء دروس تربوية فات زمن تعلمها، الأمر المهم أنك لا يمكن أن تساهم في بناء نظام سياسي متقدم من دون أن تعطي مثلاً إيجابياً للحالة الجديدة التي يجب أن ينتقل إليها المجتمع بكل تفاصيلها، أي الحالة التي من المفترض أن تتجاوز نظام الاستبداد بكل أشكاله إلى حالة دستورية ديمقراطية أرقى وأفضل، وذلك بالاستناد إلى احترام عميق للقوانين والممارسات ذات الصلة.
وبخلاف ذلك، ابتلينا بمعارضة لم تستطع تقديم نموذج جيد لطريقة تفكير تتجاوز واقع الاستبداد، وأن من طفا منها على السطح قدم أسوأ النماذج، بما في ذلك سهولة الانقياد والانتهازية والميل إلى الانتقام. وكان هم الكثير من المعارضين “النفاذ بجلدهم” وتأمين سبل اللجوء إلى الخارج والحصول على المكاسب. إن ممارسات مثل هذه، وبغياب مجتمع مدني يفرض خياراته، هي من بين الأسباب التي ساهمت في بقاء الأنظمة المتهالكة وانتعاشها من جديد.