ميديا – الناس نيوز ::
الجزيرة – في ظروف مشابهة لتلك التي أدَّت إلى ولادة روايات “الواقعية السحرية” في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي على أيدي روائيي أميركا اللاتينية من أمثال الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز صاحب “مئة عام من العزلة”، تولد رواية “الانفصال” للكاتب السوري إيلي جرجس بعد مضي ما يزيد على عقد من اشتعال فتيل الحرب السورية وما خلّفته من مآس وأزمات إنسانية وتعقيدات سياسية كثيرة تُصعب مقاربتها مقاربة شاملة دون انزياح عن الواقع وموجباته نحو عالم الخيال السحري وممكناته.
فيحاول كاتبُها، طوال 450 صفحة من القطع المتوسط، صياغة ضرب من الأرشفة السردية المتقنة للتاريخ الاجتماعي والسياسي السوري الحديث، مستعينا بالعناصر الفنية للواقعية السحرية بما تنفتح عليه من إمكانات سردية تجعل من النص الأدبي خليطا لا يمكن تمييزه بين الأحداث الواقعية والسحرية، مما يمنح الأديب حرية التحبيك الروائي خارج القواعد الصارمة للمنطق والمحاكاة التي تتسم بها الأعمال الواقعية.
ففي “الانفصال” نحن أمام رحلة عجيبة يخوضها النقيب “عارف” عبر الزمن عائدا إلى ستينيات القرن الماضي، وبدلا من أن يلتقي “الغجرية” -كما جرت العادة في روايات الواقعية السحرية- يلتقي عارف بـ”البدوية” العرّافة التي سوف ترشده إلى مسارات “امتحان الانفصال” الذي وجد النقيب نفسه في خضمه فجأة.
انفصال سيصفي ذهن وقلب عارف، ويعطيه الوقت الكافي للحكم على الواقع، والأهم أنه سيسمح له بالانخراط في تجربة وجدانية وفكرية معاشة في حقبة مفصلية من التاريخ السوري الحديث عقبَ انفصال سوريا عن مصر، وتفكك الجمهورية العربية المتحدة في 28 سبتمبر/أيلول 1961، وما تلا ذلك من أحداث وتطورات سياسية واجتماعية كانت سببا من أسباب ثورة السوريين في مارس/آذار 2011.
اختفاء عارف
ينفتح السرد في رواية “الانفصال” على حدث اختفاء النقيب عارف من كتيبته، وهو حادث تعرّض له الشاب الثلاثيني -المثقف والمهووس بكتب التاريخ السياسي لبلده- بعد أن استقل ظهر ذلك اليوم سيارة العقيد “مُحسن” وانطلق في مهمة عسكرية انتهت به مستيقظا وسط صحراء البادية السورية وقد عاد به الزمن إلى عام 1961.
تظهر الكلبة البيضاء “كُرشة” من العدم، وتقود عارف إلى خيمة صاحبتها “البدوية”، فتحسن الأخيرة استضافة النقيب التائه، وتسقيه وتطعمه وتدلّه على استراحة قريبة من خيمتها.
في الاستراحة يكتشف عارف أن الزمن قد عاد به، وأن أبا مطلوب (صاحب الاستراحة) هو الآخر قد عاد به الزمن قبل سنوات طويلة إلى هذه الصحراء، لتربط بين الاثنين علاقة قوية شرَعَتْ الباب على مصراعيه أمام سير وحوارات وسجالات الحكمة والفلسفة والتاريخ والسياسة والإنسان والمجتمع.
سردية مغايرة
وهكذا يفتح الروائي عبر تلك الحوارات نافذة عابرة للأزمنة تطل على أحداث تاريخية “بقيت مجهولة وضبابية عند أغلب السوريين” كما يقول عارف محدثا نفسه، مما يجعل حوارات عارف وأبي مطلوب وغيرهما من زوار الاستراحة بمثابة أرشفة روائية لأحداث الحقبة الزمنية الممتدة من 1961 وحتى عام 2011.
أرشفة روائية تخلِّقُ سردية تاريخية مغايرة، وربما متناقضة -في كثير من الأحيان- مع السردية الرسمية التي تُدرِّسها المدارس والجامعات لطلابها، وتتناقلها وسائل الإعلام المحلية في سوريا عن تلك الحقبة المليئة بالتحولات السياسية والاجتماعية التي مهّدت لانفجار الغضب والعنف منذ عام 2011 إلى يومنا.
ووفقا للسردية التي يسوقها عارف ومحدثوه، فإن الوحدة التي جمعت بين مصر وسوريا في 22 فبراير/شباط 1958 لم تكن تحقيقا لحلم سياسي وشعبي عربي طال انتظاره، وإنما كانت نتيجة لقرار عاطفي ومستعجل وغير مدروس أسَّس لقتل الحياة السياسية في سوريا، ذلك بعد أن اشترط الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر حلّ جميع الأحزاب السورية، واتباع سياسة ممنهجة لإقصاء السياسيين السوريين، وملاحقة المعارضين عبر الأجهزة الأمنية، والهيمنة على كل مراكز صناعة القرار في الدولة الوليدة وصولا إلى الانفصال في 22 سبتمبر/أيلول عام 1961.
وبعد الانفصال أكمل حزب البعث مهمة الناصرية في نحر التعددية الحزبية، وقتل الحياة السياسية الديمقراطية في سوريا بشكل نهائي، متبعا النهج القمعي عينه في تكميم أفواه المعارضين وزجهم في السجون بتهم كـ”وهن عزيمة الأمة”، ولضمان ولاء الجيش حوّله الحزب إلى كيان “بعقيدة حزبية قومية اشتراكية” كما يقول زائر بعثي لعارف في الاستراحة، ولترسيخ حكمه تغلغل طوال 4 عقود في مؤسّسات الدولة مقدّما امتيازات استثنائية للمنتسبين إليه.
ويعرّج السرد على أحداث مفصلية أخرى من التاريخ السياسي والاجتماعي السوري، كمجزرة حماة (1982)، وتدخل الجيش السوري في لبنان (1976)، والعقوبات الاقتصادية التي طالت النظام السوري خلال تلك الفترة مما أدى إلى تراجع الاقتصاد، واشتداد القبضة الأمنية، وتردي الأوضاع المعيشية للسوريين الذين باتوا يقفون في طوابير مطوّلة للحصول على الخبز والسمن وغيرها من المواد التموينية.
تاريخ تم تعمية أبصار السوريين عن وقائعه الفعلية لعقود، ولكن كان لتفعيل خدمة الإنترنت في العشرية الأولى من الألفية الجديدة دور في إعادة اكتشاف هذا التاريخ من خلال الكتب الإلكترونية، والمواقع الإخبارية، ومنصّات التواصل الاجتماعي كما حدث مع عارف الذي كان يمضي ساعات طويلة على الإنترنت يقرأ المقالات وكتب التاريخ ليتعرّف إلى تلك الخبايا.
عقلية مشوّهة
وإذا كان الكاتب قد خصّص أحداث الزمن الماضي لتقديم سردية مغايرة عن التاريخ السياسي والاجتماعي الحديث لسوريا من خلال حوارات عارف وأبي مطلوب وزوار الاستراحة، فإنه أفرد السرد في الزمن الحاضر لأرشفة الوقائع الأولى التي أعقبت قيام الثورة السورية مستعينا بشخوص فاعلة على مسرح الأحداث تُسهم في صناعتها.
فعبر شخصية العقيد مُحسن، الذي يتأهَّب وكتيبته لشنّ هجوم مباغت على رجال المعارضة في عدد من القرى المجاورة لهم، يقدّم الروائي نموذجا عن عقلية بعض القيادات العسكرية في البلاد والكيفية التي تعاملت من خلالها مع الأحداث المستجدة على المشهد السياسي في عام 2011.
فيكفي أن يستعرض الكاتب ذهنية العقيد مُحسن عندما كان يتخيّل مشهدا يسير فيه “بين جثث القتلى من المعارضة رافعا إشارة النصر” ليسجل “موقفا بطوليا عند القيادة، وتطاله بذلك ترقية” ليفهم القارئ المعايير التي على أساسها يرتب هذا العقيد أولوياته، فلا بأس بالترقية وإن كانت على حساب الاقتتال الداخلي، ثم لا يتوانى العقيد عن تأنيب أحد الضباط الذين تساءلوا عن الكيفية التي عليهم التعامل بها مع المدنيين العزل، وكان هذا التأنيب إيذانا ببداية مرحلة “لا صوت يعلو فيها على صوت المعركة”.
كما ويغرق السرد في تصوير طغيان العنجهية والأنانية والاحتقار والازدراء على فضاء التواصل بين الرُتب العليا والرُتب الدنيا في الجيش، والذي كان من شأنه أن يؤدّي إلى موت المجنّد “عبده” منتحرا، وتمرّد المجند “صقر” بعد سلسلة من العقوبات والإساءات التي وجهها لهما العقيد محسن دون وجود سبب واضح.
وعبر تسليطه الضوء على هذه المظاهر وغيرها، يسعى جرجس إلى تفكيك نظام القهر والتسلط والمحسوبيات الذي تقوم عليه المؤسسة العسكرية، مُتسائلا إذا ما حلّت عقيدة “الفساد والطائفية” محل العقيدة “القومية العربية الاشتراكية” التي أرادها البعث لجيش البلاد مع وصوله إلى الحكم في عام 1963.
توجّس
كما ولم يغفل السرد في أرشفته لأحداث تلك المرحلة عن مظاهر الانقسام التي طالت معظم جوانب حياة السوريين، الذين انقسموا بين مؤيدين ومعارضين، منتفعين ومتضررين، محمومين وغير مبالين بما يحدث.
فبتتبعه للتداعيات التي خلّفها حدث اختفاء عارف على خطيبته هند وعائلتها، يتمكن السرد من تكثيف المشهد في الشارع السوري في تلك المرحلة: قمع مظاهرات أيّام الجمعة، التشديد الأمني وانتشار الحواجز، الاعتقالات والتعذيب، تسلّح المعارضة، اندلاع المعارك بين الطرفين.
وبالاطلاع على المواقف السياسية للشخصيات الرئيسية (التي جلّها من خلفية دينية مسيحية) في الزمن الحاضر، يعاين القارئ حالة التوجّس التي هيمنت على هذا المكوّن الاجتماعي السوري في تلك المرحلة، وهو توجس من الفخاخ الطائفية، ومن المؤامرات الدولية، ومن الانزلاق إلى أعمال العنف لا تحمد عقباها.
حالة دفعت بشخوص الرواية إلى تبني رأي وسطي يعبّر عنه أبو هند خير تعبير عندما يقول: “نحن المؤيدون والمعارضون، مؤيدون لكل بصيص ضوء ولَبِنَة عمران، معارضون لأية بقعة فساد وسوء إدارة”.
ولكن من جهة أخرى، أراد الكاتب أن يصوّر شخوصه “الوسطية” كشخصيات وطنية قادرة على تقديم التضحيات إذا ما تطلب الأمر منها فعل ذلك، فيتابع القارئ كيف خاطر أبو هند بسلامة عائلته عندما أخفى في منزله يوسف الملاحق أمنيا من قبل أجهزة النظام، ثم قام بتوفير مكان آمن له بعيدا عن الشبهات.
ما يزال الطريق طويلا
وبالعودة إلى ما جرى مع عارف في انتقاله العجائبي عبر الزمن، نجد كُرشة، الكلبة البيضاء نفسها، تقوده في مشهد سحري إلى صاحبتها البدوية، ولكن هذه المرة ليس إلى الخيمة، وإنما إلى المدرّج الروماني الأثري في مدينة تدمر السورية.
يقف عارف أسفل المدرج مذهولا بظهور البدوية على منصة المسرح كشبح لا يمكن تمييز ملامحه، تخبر البدوية النقيب أن الاختبار قد انتهى، وأن عليه الآن إما البقاء في هذا الزمن وإما العودة إلى زمنه الذي عاشه، يختار عارف العودة إلى زمنه حيث الأحباء في انتظاره.
وهكذا يقود عارف سيارته وينطلق فوق طريق ترابي فيغلبه نعاس شديد، وما إن يستيقظ حتى يجد أمامه لوحة زرقاء كتب عليها “دمشق 100 كم”، يترجل عارف من السيارة ويلتقط حجرة حوّارية ويكتب على اليافطة “ما زال الطريق طويلا”.
وعلى وقع هذا الحدث تنغلق الرواية معلنة نهايتها، بينما يفتضح النصّ مدلوله دون حاجة إلى استنطاقه، فبالرغم من نهاية “انفصال” عارف عن واقعه (وهو مجاز لانفصال السوريين عن تاريخهم وعن واقعهم الذي انتهى مع بداية ثورتهم) ما يزال الطريق إلى دمشق طويلا، إلى دمشق المشتهاة دون حرب وألم وخوف.
وبذلك ينجح جرجس، عبر التوظيف الشكلي لعناصر الواقعية السحرية والحرص على الأرشفة السردية، من تقديم عمل روائي يكاد يطوي بين دفتيه أهم الأحداث والتحولات السياسية والاجتماعية التي شهدتها سوريا حديثا، التي ينقلها لنا الروائي ما بين السحر والواقع ليجعل لتسلسلها دلالة خاصة تقودنا إلى لب تصوره لما جرى في بلاده خلال العقود الخمسة الأخيرة.
ولكن يؤخذ على رواية “الانفصال” طغيان الأسلوب التقريري والتوثيقي على حساب الأسلوب السردي في الخطاب، والتشابه الكبير بين أصوات ومواقف الشخصيات الرئيسية التي ظهرت جميعها كشخصيات مثقفة ولديها اطلاع واسع على المسائل التاريخية والسياسية والاجتماعية.