[jnews_post_author ]
كنت أقود سيارتي على الطريق السريعة بين مدينتي طرطوس واللاذقية بالحد الأقصى للسرعة المسموح بها، وقد تعودت أن أُلزم نفسي بتطبيق القانون، ولو أن الأمر لم يعد يعني الكثير في الفوضى السورية الحالية. كانت الطريق شبه خالية من جراء أزمة البنزين، وكنت أفكر بأشياء كثيرة، أشياء تؤرق سوريي الداخل على نحوٍ خاص، طوال يومهم المليء بالأزمات والخالي من الحلول، ما يجعل الكثيرين منا كالمخبولين، يتكلمون مع أنفسهم ويصطدمون بما وبمن حولهم!
وعلى حين فجأة، انتبهت إلى أن ثمة مَن يشير لي كي أتوقف، وكنت قد تجاوزته بمئات الأمتار. قدت إلى الوراء، وساعدت المرأة الكهلة على تحميل أغراضها/ كراكيبها في صندوق السيارة، وكنت أحمل مثلها أيضاً، فقد استغليت فرصة تعبئة خزان سيارتي بما يكفي من البنزين للسفر إلى اللاذقية وتوصيل بعض المؤن لأحبائي.
ارتدت المرأة منديلاً/ خماراً اعتادت نساء الريف السوري على ارتدائه منذ القدم، قبل أن تُفرض على معظمهن أنماط لباس لم يعتدنها، وما أن استوت على المقعد بجانبي حتى شرعت بالدعاء، وقالت بأنها كانت تنتظر الحافلة منذ ساعة، بعد أن أوصلها ابنها من مدينة بانياس إلى الأوتوستراد، وتركها على قارعة الطريق ليذهب إلى عمله.
كانت المرأة متلهفة للحديث، وهي ترمقني بنظرات جانبية علّني أعطيها إشارة ما لينطلق لسانها بلا توقف. وبعد أن طرحت بعض الأسئلة الاستكشافية، تصاعدت نبرتها بالحديث عن الأزمات المعيشية غير المحتملة، وعن معاناتها الخاصة مع المرض، واضطرارها للعمل كخادمة في البيوت لتشتري أدويتها. لم تكتفِ المرأة بذلك، وانتقلت إلى الحديث في السياسة وبنفس السلاسة، فتحدثت بما لم يكن السوري يجرؤ على النطق به بحضور شخص غريب. لكن، للحق، كانت المرأة تكرر لازمتها بين فترة وأخرى؛ “مبين عنك ابن حلال”، في محاولة لتبرير صراحتها وإخفاء خوفها !
وعلى دور البنزين، وفي التجمعات الصغيرة التي تتشكل كخلايا يتوافر فيها الحد الأدنى من الأمان، يجري النقاش عن الفساد المعمم، لكن من النادر أن تُقال فيه آراء سياسية واضحة، إنما يجري التلميح إليها بقوة أحياناً. ومع ذلك، تبرز نقطة ضعف عدة أجيال من السوريين العاديين في الثقافة السياسية العامة، كونهم عاشوا في أجواء مشبعة بالاستبداد، وتكيفوا معها إلى درجة جعلت نظرتهم إلى العالم من حولهم مشوشة، وصار من الصعب عليهم المقارنة بين أنظمة الحكم وتخيل فصل السلطات وتطبيق القانون على الجميع والتمتع بحرية التعبير، وما زالوا يعتقدون بإمكانية إصلاح ما لا يمكن إصلاحه، مثلهم مثل من يأمل بعلاج سرطان مستفحل في مراحله الأخيرة.
وأحيانًا، قد يصل السوري إلى درجة شديدة من الحصر، فلا تعود المخاطر تعنيه كثيراً، لكن المآسي التي حصلت في العقد الأخير وقبله تكبحه وترعبه، ويبدو متردداً في التمرد على واقعٍ غير قابل للاحتمال، فيفرغ انفعالاته في مساراتٍ جانبية، ويبحث عن أساليب جديدة ومختلفة للتعبير عن احتجاجه، بحيث تكون أكثر سلامةً وجدوى، كأن يشتم الحكومة في بلد لا تعدو مؤسساته أن تكون أكثر من واجهات للسلطة الأمنية.
ومع أن الكثير من الأمور باتت خارج السيطرة والتعقل والفهم، ومنها عناد السلطة تجاه أي تغيير، حتى لو لم تعد تمتلك مفاتيحه، إلا أن المعطى الثابت هو أن الوقائع المتغيرة على الأرض والمعاناة المستفحلة لا يمكن وقفها أو حتى كبحها، وفي سيرورتها تكمن قوة التغيير وحتميته، مهما تم وسيتم العبث في مجرياته، ليبدو كطريق مسدودة أو مجرد سراب.
لكن تجمعات البؤس المتنقلة من طابور إلى آخر تُعد سلاحاً ذا حدين، فهي، من جهة، تجمعات يبدو فيها الإنسان وقد تم مسخه إلى مجرد كائن حي مستهلك يُرمى إليه ببعض الفتات، ومن جهة ثانية، هي المكان الذي تتبلور فيه علاقات اجتماعية جديدة، في ما يمكن اعتباره بناء أواصر الثقة والتضامن بين الناس، وقد حرم السوري، بموجب قانون الطوارئ ومستتبعاته، من التجمع والاجتماع، إلا في “معلبات” الحزب وتفرعاته، وما يعنيه ذلك من صعوبة إبداء الرأي والتفاعل مع الجماعة، واكتساب المزيد من المعرفة السياسية وآداب الحوار.
ومهما كان ويكن، بوسع المرء ملاحظة التغيرات الحاصلة في القدرة على التعبير في وسائل التواصل الاجتماعية والتقدم في فهم الأحداث، من خلال المقارنة عبر الزمن، فالسوري، على العموم، في عام 2011 ليس كما هو في هذه الأوقات، ولا حتى منذ سنة، على الرغم من محاولات إلهائه بالركض وراء سبل العيش الهاربة أمامه، بانتظار حل سياسي قد يفتح ثغراتٍ ما في الجدار الأصم.
كما لم يعد الخلاص الفردي ممكناً، كسبيل للنجاة في أجواء التفرقة والشك والخوف، وقد انقسم المجتمع إلى شريحتين؛ صغيرة العدد ومتضامنة، تعيش على المأساة وتستثمر فيها، وكبيرة متفرقة، تبحث عن سبل النجاة، ولو أن الشريحتين تتداخلان وتتماهيان أحياناً، تجمعهما أواصر الفساد المعمم، فيستغل الناس بعضهم في لجة الفوضى والفاقة، وفي كافة المستويات.
هكذا، وبعد الانفجار السوري الكبير عام 2011، يأتي الانكشاف السوري الكبير في عام 2020، بعد توقف المعارك، ومعها كل أصناف التحشيد الإعلامي لخدمة المتحاربين. وبالرغم من هول التداعيات المأسوية، كان الانفجار الكبير مرحلة لا مهرب منها، نظراً لإغلاق الباب في وجه الحلول وحظر العمل في السياسة، ليسلك التغيير سبلاً معقدة ومدماة وشائكة. كما أسدل الانكشاف الكبير، الذي ظل يتدرّج حتى وصل إلى مرحلة التلف الاجتماعي والسياسي، الستار عن مرحلة طويلة وقاتمة، ولم يبق سوى تأبينها رسمياً وشعبياً.
—————————–
منير شحود