هدى سليم – الناس نيوز ::
عزام أمين، باحث سوري ، حاصلٌ على دكتوراة في علم النفس الاجتماعي من جامعة ليون الثانية في فرنسا، أستاذ وباحث في معهد الدوحة للدراسات العليا، يعيش متنقلاً بين الدوحة وفرنسا.
جريدة الناس نيوز الأسترالية حاورته عن ظروف خروجه من سوريا منذ التسعينيات، بعد الضغوط التي تعرض لها وأسرته بتهمة الانتماء لحزب العمل الشيوعي.
عن تلك الظروف وتلك المرحلة يقول الدكتور عزام :
“خرجت من سوريا في عام 1998 وكان هناك أسباب خاصة مباشرة، وأخرى عامة غير مباشرة.
بالنسبة للأسباب العامة فهي التي أتشارك فيها مع معظم السوريين، ففي ظل وضع اقتصادي شبه مُنهار عانت أجيال من الشباب السوري الفقر والبطالة والتهميش والهدر لطاقاتها وكفاءاتها، هذه الشريحة من الشباب عاشت الحرمان في غبنٍ وغربة عن مجتمعها، وكان هاجسها اليومي هو إشباع حاجاتها الأولية كالحاجة لمأوىً وعملٍ ومكانةٍ اجتماعيةٍ وإحساسٍ بالطمأنينة، ولا عجب، إذاً، في ظل هذه الظروف من أن تصبح الهجرة هي المخرج الوحيد لمن استطاع إليها السبيل: فإما غربة في الوطن أو وطن في الغربة.
أما الأسباب الخاصة المباشرة التي دفعتني لمغادرة سوريا هي بخصوص تعرضي لضغوط أمنية وسياسية كمعظم أفراد أسرتي التي عانى قسم منها السجن والاعتقال في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، فبالرغم من تفوقي في جامعة دمشق، وأنني كنت من الخمسة الأوائل في قسم علم النفس، حُرمت من أي فرصةٍ للمنح البحثية ومن أي توظيفٍ ممكن وذلك بسبب مواقفي السياسية في تلك الفترة.
هكذا كانت سوريا في ظل نظام الأسد الأب، فلم يكن أمامي سوى الهجرة، أو الهروب منها بمعنى آخر”.
عزام أمين عايش فترة الثمانينات والتسعينات سياسياً، ويعرف جيداً كم من الصعب على شعبٍ ما أن يُفكِر بكسر قيود الصمت لنظامٍ أطبق كماشته على كافة تفاصيل حياته، فهل تخيل وتوقع أن تأتي لحظة 2011 في سوريا؟
ويُجيب:
“ما من عاقلٍ كان يشك بأن الشعب السوري لن يثور يوماً، فهذا الشعب الذي عانى الأَمَرين، على مدى أربعة عقود، من نظامٍ مافيوي لطالما اعتبر سوريا مزرعةً عائلية، كان لديه ألف سبب لينتفض، فنعم كنت أتوقع لحظة 2011 ولكن لم أكن أعرف متى، ومنذ أن بدأت نسائم التغيير والانتفاضات العربية، أواخر عام 2010 ومطلع عام 2011 في تونس ومن ثم مصر وبعدها ليبيا واليمن، كنت أستيقظ يومياً وأقول في نفسي متى سينزل الشعب السوري إلى الشوارع..
أتذكر تلك الأيام منذ إثني عشر عاماً، وأتذكر المشاعر التي سيطرت عليّ حين رأيت أولى المظاهرات في درعا ودمشق وبانياس ومدينتي سلمية: فرح، حزن، غضب، حماس، فخر، سعادة، خوف، وأهم شيء كان هو الأمل المُسيطر عليَ في تلك الفترة.
الأمل بسوريا لكل السوريين وليست سوريا الأسد.
ويُكمل الباحث السوري عن مشاعره عن تلك الفترة، لم تُفاجئني الثورة الســورية أبداً، ما فاجئني هو تصميم وشجاعة السـوريين التي لا يمكن وصفها.
سأستعير من الصديق الكاتب السوري راتب شعبو ثلاثة أسطر تختصر كل شيء وتختصرني معها: “بشجاعةٍ لم يتخيلها أكثرُنا تفاؤلاً، خرج السوريون في آذار 2011 ضد نظامٍ تجبرَ حتى خال نفسه مؤبداً، لا شيء ولا حتى الهزيمة، ولا حتى كل الخراب التالي يُمكن أن يَسلب السوريين هذا المجد الذي سيبقى مُضيئاً في تاريخ سوريا، مثل واقعة ميسلون بالنسبة لي كانت وستبقى من أجرأ وأجمل الثورات”.
هنا كان لابدَ أن نستغل الفرصة وبصفته باحثاً يلتقط الأسباب ويقف على ماوراء الظاهرة لتحليلها والكشف عن ماهيتها الحالية، لنعرف ونتعرف عن وجهة نظره في الأسباب التي أوصلت مسار الثورة إلى هذه النقطة التي نعيشها في الوقت الراهن، ليتحدث لنا منذ البداية وحتى الآن، وليطرح بنفسه أسئلةً يقول أنَ الأجوبة عليها تتطلب شجاعةً وتحملاً للمسؤولية فيقول:
“مع اندلاع الثورة السورية في شهر آذار من عام 2011، دخل السوريون إلى عالم سؤال الحرية والديمقراطية، فهم في ظل نظامٍ شمولي مافيوي، لم يعرفوا معاني العمل السياسي الحر والاختيار الحر والمسؤولية المجتمعية، ولكنهم اليوم، وبعد أكثر من 11 سنة على بدايتها وعملية التطييف التي تعرض لها، يجد السوريون أنفسهم عالقين في سؤال الهوية: من نحن؟
هل كان من الممكن تفادي ظهور الطائفية بأشكالها المختلفة وأسبابها المتعددة، وتفادي تسليح الثورة أو تسليح قسم لا بأس به منها؟ هل كان من الممكن تفادي الثورة المضادة ؟ هل كان من الممكن تفادي تحوّل/تحويل ثورة الشعب السوري إلى حرب وتصفية حسابات على الأرض السورية بين عدة دول إقليمية ودولية؟
هذه أسئلة مهمة، والإجابة عليها شرط مهم للخروج من الأزمة الحالية، ولكن يجب أن تكون إجاباتنا نقدية شجاعة وبدون التهرب من المسؤولية على ما وصلت إليه أحوال السوريين وثورتهم”.
طبعاً وسندخل في منحىً آخر إنَ أردنا الإجابة عن الأسئلة التي طرحها، وعلَنا نجدُ إجابةً تُمكننا من تجاوز أخطاءنا ذات يوم، لكن كان الأهم أن نتعرف على الهوية أو “من نحن” كما قال، وهو الذي يعيشُ في فرنسا منذ سنوات طويلة، ومع ذلك وبدون أي جهد نرى السوريَة الطاغية وامتلاءه بها، ليَشرح فكرة الانتماء والهوية كما يراها:
“حقيقةً لا يمكن الفصل بين الانتماء والهوية، فجزء لا بأس به من هويتنا نابع من إدراكنا ومعرفتنا بانتمائنا لجماعات معينة واكتساب معاني قيمية ووجدانية متعلقة بهذه الانتماء، وأيضاً من إدراكنا لعدم انتماءنا لجماعات أخرى، فالفرد يبني هويته من خلال عملية إدراك معقدة لتماثله مع البعض وتمايزه/اختلافه مع البعض الآخر.
الهوية ليست مُعطى جامد وإنما بناء دائم ومستمر يقوم به الفرد من خلال عملية التفاعل الاجتماعي، وهو ما تعبّر عنه الأسئلة الوجودية الّتي يطرحها كلّ فرد على نفسه بطريقة واعية ولاواعية: كيف أحب أن أكون؟ كيف يراني الآخرون؟ من أكون أنا فعلاً؟
في الواقع، مفهوم الهويّة هو مفهوم إشكالي معقّد ومركّب ويحتمل الكثير من المعاني والتفسيرات وممّا زاد من تعقيده وغموضه هو أنّه مفهوم شائع جداً، لكن سأحاول التعبير بطريقة أخرى أبسط بالقول: هُويتي هي الأنا الذي يُشبِهُني هي ما تجعلني مختلفاً عن الآخرين، هي وجودي ويُشعِرني أني موجود كشخص وكشخصيّة (دور، وظيفة، علاقات اجتماعية)، وهي ما أستخدمه لأَعرف وأُعرّف نفسي، هي ما تُشعِرُني باعتراف الآخرين وقبولهم أو رفضهم وعدم قبولهم لي وهي انتمائي وشعوري بالانتماء للآخرين (جماعات) واللا انتماء للآخرين (جماعات أُخرى)”.
الخروج من سوريا هو خروج ليس جغرافي فقط، إنما هو خروج من فكرة الدولة الشمولية الاستبدادية، وبالتأكيد للدكتور عزام رؤيته حول شكل هذه الدولة التي يتمنى، وبالنسبة له:
“الأسئلة المطروحة أعلاه تشكل تحديات خطيرة تواجه السوريين في الوقت الراهن، وحلولها المفترضة تثيران تساؤلات حقيقية حول طبيعة وشكل الوطن السوري، أتمنى دولة تضمن وجود هذا الوطن، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلى من خلال دولة المواطنة والديمقراطية، دوله يسودها قانون ودستور بعيد كل البعد عن القوميات والأديان والطوائف، دولة علمانية ديمقراطية تعددية لا مركزية. وأتمنى أن تكون أول جملة في دستور سوريا التي أتمناها هي: كرامة الوطن من كرامة المواطن.
بالطبع، أستطيع أن أكتب مطولاً عن كل مفهوم من هذه المفاهيم، ولكن أترك الحرية للقارئ للبحث عنها”.
في النهاية، وفي كل حديث يجمعنا مع شخصيةٍ سوريَة لابدَ من الحديث عما يمكن أن يضيف فكرةً تُلقي ضوءاً على النفق السوري المُظلم المُعاش حالياً وطريقة الخروج منه، ورؤيته تتلخص في:
“لا يمكن تجاهل دور القوى الإقليمية والدولية في الأزمة السورية الحالية.
ويقول عزام في حواره مع جريدة الناس نيوز الأسترالية ، لذلك الحل في سوريا لا يمكن أن يكون حلاً فعّالا ومجدياً بمعزل عن الإرادة الدولية والشرعية الدولية، لا يمكن تجاهل هذه المعادلة ولا بأي شكل، ولن يأتي الحل إلا من خلال التفاوض بين قوى الأمر الواقع، التفاوض بكل ما تتضمنه الكلمة من علاقات قوة ومساومات وتنازلات.
هذا التفاوض سيمر، حتماً، عبر إيران وتركيا وروسيا وأمريكا، ومن المهم ألا ننسى دول أخرى لها علاقات بشكل غير مباشر بالوضع السوري كفرنسا-الإمارات أو السعودية ومصر.
ولكن القول بأهمية الدور الإقليمي والدولي لا يعني أبداً أننا كسوريين لا نستطيع أن نفعل شيئاً وأنه ليس بمقدورنا التأثير في مسار الأحداث، كلما كنا كسوريين منظمين كلما كان لنا كلمة ودور في حل الأزمة السورية، ماذا يعني منظمين؟ أقصد تنظيم أنفسنا في قوى وأحزاب سياسية، وفي منظمات مجتمع مدني، لا يمكن، ولا بأي شكل من الأشكال، لأفراد غير منّظَمين ومبعثرين هنا وهناك تغيير الواقع أو التأثير عليه
.
نظام الأسد حالياً في أضعف حالاته منذ 2012، والغاضبون عليه كُثُر جداً، حتى من المؤيدين وهي نسبة تزداد كل يوم ، ولكن طالما أن الفرد يصرخ لوحده ويعمل لوحده لا يشكّل أي خطر على هذا النظام، وكل ما يقوم به هو ليس أكثر من عملية تنفيس عن غضبه تشعره براحة آنية مزيفة، هذا هو حال معظم من يصرخ على منصات التواصل الاجتماعي، والنقطة الأخيرة المهمة هي: لا حل بدون عدالة انتقالية.