د. محمد حبش – الناس نيوز ::
كان الباراكود قبل سنوات قليلة لغزاً لا يفهمه إلا العباقرة، وكان أبناء جيلنا يقتربون منه بحذر حيث تنصرف الأذهان إلى أنه متاهة يدخل فيها المرء فيقع في مصيدة القراصنة الالكترونيين والاحتياليين والمخابرات وأصحاب الأجندات الخفية، ولا شك ان ثقافة المؤامرة التي شكلت جانباً كبيراً من وعينا أسهمت في بث الخوف والريبة والمؤامراتية من كل جديد.
ولكن الباراكود اليوم بات أهون من البطاطا وصار الجميع يعرفونه على طاولات المطاعم وعلى دعوات المؤتمرات، وعلى المتاجر الجديدة، وعلم الجميع أن صناعة باراكود لا يتطلب أكثر من فتح الصفحة التي تختارها على النت، ثم ضغط كبسة زر مجانية، حتى يصبح الباراكود في جهازك، وتوزعه بكل بساطة عبر الواتس أو الايميل أو الماسنجر أو أي من وسائل التواصل الاجتماعي، ونجح التنافس التجاري في اغتنام هذا التطور المعرفي إلى الغاية، وتحقيق أرباح طائلة حين جعلوه للناس علامات وبالباراكود هم يهتدون.
أما في الجانب الاجتماعي فأعتقد اننا لم نقدم ما يكفي لتطوير هذه التقنية وإثراء حياة الناس، فلا خير في تطور علمي لا ينعكس إحساناً في حياة الناس وإسهاماً في جعل الحياة أجمل، وأعتقد ان فقه السنة النبوية في منيحة العنز يدعونا للتقدم خطوات واثقة نحو الباراكود الاجتماعي.
في دعوات الأفراح يمكن أن تكون لصقة الباراكود على بطاقة الدعوة مناسبة ليتعرف المدعوون على العروسين، فالغاية الأولى في دعوات الأفراح هي التعارف، حيث يتعين أن يتعرف أهل الزوجة على شمائل الزوج وأهله، وأن يتعرف أهل الزوج على شمائل الزوجة وأهلها، إنها لون من التعارف الذكي والجميل، ولا شك أنه سيكون لطيفاً وذكياً في تقديم أجمل ما لدى العروسين من ذكريات وإنجازات يشاركهم الناس فيها قبل أن يتم اللقاء في الحفل، وسيجعل حضور الناس وفهمهم للعروسين الجديدين أكثر إمتاعاً وسروراً وبهجة.
لقد بات من السائد أن يحضر الناس أفراحاً لا يفهمون منها شيئاً، وبالكاد يتبينون صورة العريس أو العروس، ولا يعرفون عنهما شيئاً مع أن حفل الزواج إنما شرع للتعارف والتواصل، وقد أوتي عدد من الناس بالفعل مهارة التواصل ومبادأة الحاضرين بالتعريف والمصافحة والتبادل البطاقات، ولكن غالبية الناس ما تزال ترتاب من التقدم من الآخر والتواصل معه، وهناك كثير من الناس يؤدون حضورهم في حفل العرس على موائد يجاورون فيها من لا يعرفون، وفي حفلات الشام مثلاً فإن الوقار الشديد يجعل كثيراً من الأفراح أشبه بأداء النسك، حيث يتم الاستماع للموعظة والنشيد بوقار وهيبة، ثم ينتهي الحفل دون مبادرة تعارف جديد أو تواصل، حيث تتنازع هذه المبادرة غريزتان متناقضتان: الأولى هي التعارف المحمود، والثانية هي الفضول المذموم والتدخل في خصوصيات الآخرين…
وفي السائد من عاداتنا أن يدعى الناس إلى فرح ما ويدعى رجل الدين في الحي للتحدث في الفرح، ومن خطباء الأفراح حكماء وأذكياء، يملؤون الفرح بهجة وحبوراً وأنساً، ويقومون بذكاء لافت بالتعريف بالأسرتين المتصاهرتين، ولكن منهم من يكون غافلاً تماماً عن المناسبة وقد شهدت مئات الأفراح يتحدث فيها رجل الدين وهو لا يعرف شيئاً عن العائلتين المتصاهرتين، وربما توجه في حديثه عن الوصايا الدينية أو الإعجاز القرآني أو الشأن السياسي وأحياناً عن عذاب القبر!!، ولا يكاد يحسن كلمة دقيقة في التعريف بالعروسين أو الأسرتين.
يمكن للباراكود أن ينهي ذلك كله ويوفر معلومات بسيطة يرغب العروسان أن يعرفها الناس عنهما، ويمكن أن يقدم للمدعوين عبر موبايلاتهم صوراً وتسجيلات مصورة جميلة عن ولادة العروسين وطفولتهما ودراستهما وصباهما وفتوتهما وتعريفاً عن العائلتين، ويمكن أن يتابع الناس ذلك حتى على طاولة الفرح، ولا شك أن العروسين الذين كلفا أن يقدما للمجتمع بروفايل مختصر عن حياتهما يقدمان بشكل تلقائي نوعاً من التعهد والالتزام ببناء حياة أسرية قائمة على الحب ومكارم الأخلاق.
في دعوات التخرج يجب أن يأخذنا الباراكود على بطاقة الدعوة إلى التعرف على ولدنا المحبوب كما يريد أن يعرف نفسه لأهله وأصدقاءه، وسيتمتع المدعوون بمشاهدة الفتى المتخرج في طفولته وفتوته ودراسته، وسيكون ما يختاره من وثائق وصور بمثابة عهد لوالديه أن يتقدم للمسؤوليات الآتية بضمير وإتقان.
في حفلات تكريم الشعراء والأدباء والعلماء وتوقيع الكتب فإن من السهل جداً أن تكون لصقة الباراكود على بطاقة الدعوة، وسيكون رائعاً أن يتصل المدعو بالباراكود عبر الموبايل بالكتاب المراد توقيعه أو الشاعر المراد تكريمه أو الزائر المراد الاحتفاء به، وسيأخذك الباراكود إلى تسجيلات صوتية أو مرئية للتعريف بالشخص المحتفى به وطريقة تفكيره ونوع ثقافته، وسيتعرفون بوضوح على معلومات ضرورية قد تشجعهم على حضور الحفل او تصدهم عنه لأنهم سيعودون منه ساخطين، فالغياب خير من الذكرى السوداء.
في بطاقات النعوة يستطيع الباراكود أن يقدم صورة موسعة عن الفقيد الراحل ومولده ووفاته وشهاداته وإنجازاته، ومن الوفاء أن يكون الأبناء قد أعدوا ملفاً مختصراً عن والدهم وإنجازاته وعطاءاته وتضحياته، وصوراً متعددة تعبر عن نجاحاته في الحياة وتعرف بحياته وأصدقائه وأحبابه، وسيشعر الناس بالمسؤولية تجاه الفقيد ويشارك عدد أكبر في تأبينه ورثائه ورحيله، حين يتعرفون على خدمات قدمها للمجتمع.
على المقابر يمكن للباراكود أن يقدم خدمة نموذجية للتعريف بالراحل وإحياء ذكراه، حيث من اليسير أن تلصق بنفسك على شاهدة القبر باراكوداً يشير إلى صفحة الفقيد ، التي يعدها أبناؤه، قتزيد روضات القبور بهجة وتفاؤلاً وأملاً، وتشجع الأبناء ولاأحفاد على زيارة قبور أجدادهم والتعرف إلى ما قدموه في حياتهم للناس.
وتشتد هذه الحاجة خاصة في بلاد الخليج حيث تنتشر ثقافة القبور الدوارس، ولا يكاد يظهر للمتوفى أثر بعد رحيله، حيث لا يزال الفقه الحنبلي شديد الحساسية من عبادة القبور ويفضل ان يكون رحيل المتوفى قطيعة نهائية بينه وبين العالم، حتى نسي الناس زيارة القبور ووصية النبي الكريم بها وأنها تذكركم الدار الآخرة، وفي السنوات الأخيرة أعلنت عدة بلديات في دول الخليج عن خطوات أساسية لترقيم القبور عبر علامة توضع عليها، وهو سلوك كريم سبق به النبي الكريم حين وضع علامة قدر ثلثي ذراع على قبر عثمان بن مظعون وحين سألوه قال: علامة أتعلم بها قبر أخي، وقد صار بالإمكان بالفعل أن يصل الزائر إلى قبر والده عن طريق الرقم على الشاهدة!
عبر تقنية الباراكود صار من السهل تماماً أن تلصق على شاهدة القبر باراكود أعددت فيه صفحات للتعريف بأبيك الراحل، وسيقود الباراكود الزائرين بالموبايل إلى عدة صفحات وصور تعرف بالراحل واسمه وثقافته ومعارفه ونسبه، ويمكن أن تضاف تسجيلات فيديو من أيام حياته يستأنس بها الزوار وتقدم إضافة جديدة في أرشيف العائلة والمؤسسات التي عمل فيها الهيئات الاجتماعية ألتي أسهم في حياته فيها.
إنها ممارسات بسيطة ولكنها يمكن أن تحقق تطوراً اجتماعياً مهماً، وسأبدأ بها بنفسي، ولدي قناعة تامة بان استنباط فكرة كهذه والترويج لها وهو ما أسميته في بداية المقال: سنّة منيحة العنز!
والآن ما هي منيحة العنز، وما علاقتها بالباراكود؟ هذا ما نشرحه في مقالنا الآتي مطلع رمضان.