[jnews_post_author ]
في كل مرة تذكر فيها معاهدة سايكس بيكو بين بريطانيا وفرنسا يتبادر إلى الذهن وضع لبنان وسورية والأردن وفلسطين. إنها بلدان مخترعة، ففي أحد المكاتب السرية وضع ثلاثة رجال هم مارك سايكس، وجورج بيكو المذكورين آنفا برفقة الروسي سارزانوف بقلم الرصاص مصير أكثر من عشرة ملايين إنسان (صار عددهم اليوم يزيد على خمسين مليونا) في عهدة الخرائط.
كان جدي (ومن بعده أبي في شبابه) مثلا تاجر حبوب يتنقل بين سورية وفلسطين والأردن دون جوازات سفر، أي دون المرور على مخافر الشرطة والأمن، ودون الإحساس بالحدود كما هو الحال الذي وصلنا إليه. الطريف اللافت في الأمر هو أنه كان يتحرك بمثل هذه “الحرية“ بين الدول الثلاث في الزمن القريب الذي كان فيه الاستعمار الفرنسي يحتل سورية، بينما كان الاستعمار البريطاني يحتل فلسطين والأردن. وهو أمر يحاول أن يستعيده المثقفون والسياسيون القوميون كنوستالجيا للزمن الحر الذي كانت تمثله سورية الطبيعية قبل تقسيمها، ولكن دون مناصرة الاستعمار بالطبع. أو يستعيده اليوم بعض الذين يحاولون استئجار ” الخلافة العثمانية” كهوية دينية جامعة، بزعم أنها كانت توحد المنطقة قبل أن يأتي الاستعمار ويفتتها (بل إن بعض هؤلاء ـ ومعظم الذين قرأت تعليقاتهم هم من المعارضة السورية ـ افتتحوا تهمة جديدة لشهداء السادس من أيار هي العمالة للاستعمارين الفرنسي والبريطاني في واحدة من أكثر حالات العدمية بشاعة في تاريخ المهزومين). وفي كلا الحالتين تغيب عن المثقفين العرب، القوميين منهم، والعثمانيين الجدد، الهوية السورية الحالية، أي أنهم يلغون الوجود السوري لصالح هويات أخرى غير موجودة على الأرض بتاتا. وفي الغالب فإن أكثرية المثقفين يشتمون الحدود دون أن يراجعوا المفهوم والمسألة. أفكر بالأمر كما يلي: صحيح أن السوريين واللبنانيين والفلسطينيين والأردنيين كانوا يعيشون في هذه المنطقة الجغرافية منذ آلاف السنين دون الحدود الحالية، ولكن لنسأل أنفسنا:
كيف يمكن رفض الحدود من جهة، والتمسك بالهوية اللبنانية والأردنية والفلسطينية من جهة ثانية؟ بل إن المشكلة هي أن من يدفع ثمن هذه المواقف هي الهوية السورية حصرا، فالقوميون، في تلك البلدان، ومنهم متحمسون جدا لمحو السورية لصالح القومية، يتمسكون بهوياتهم القطرية، إذ يفخر السياسي أو المثقف من كل واحدة من هذه البلدان بـ ” هويته” الوطنية، بينما يريد أن يمنع السوري من الوقوف تحت فيء مظلة مشابهة. وهذا يستتبع السؤال الآتي: أليست الحدود صانعة تلك الهويات المحلية الحالية التي يتشدد اليوم كثيرون من أجل الحفاظ عليها حتى لو كانت صناعة استعمارية؟
فالحدود على الرغم من سمعتها السيئة في المخيلة العربية، هي التي تمنح الهوية للمواطن (بالإضافة طبعا إلى عناصر أخرى جامعة) ويعرف السوري واللبناني الذين يعيشون على الحدود، ويمتلكون أراضي في الطرف الآخر معنى ذلك. الحدود اليوم باتت أمرا واقعا لن يكون بوسع الحنين أن يلغيها، والحلول الأخرى المطروحة لا تصلح لأن تكون بديلا عنها.
المشكلة الكبرى هي في غياب الهويات المستقلة. إذ لم تتمكن دولة الاستقلال من تكوين الهوية، فقد حصلنا على الدولة، ولم نحصل على الهوية. كانت المشكلة قائمة في أن الأحزاب القومية التي استطاعت كسب الجماهير إلى صفوفها، عملت على تدمير الهوية الوطنية لصالح هوية مستعارة من الأفكار لا من الواقع، دون أن تكون قادرة على تدبير مسألة التنوع العميق الذي يسم سورية واستثماره في دعم أي وحدة. وكانت مناهج التعليم تتمركز حول الهوية القومية وحدها، وباتت السورية (وهي هوية جامعة تستطيع أن توحد مشاعر الأكثريات والأقليات) شبه محرمة، حتى أن أجيالا من السوريين ما كان الفرد من بينهم يتجرأ على القول: أنا سوري، بل عربي سوري، أما أغنية: أنا سوري آه يا نيالي، التي أطلقت في مرحلة تالية من مراحل سورية، فكانت ردا على ما اعتبر في ذلك الحين، تخليا عربيا عن سورية في حربها مع إسرائيل. غير أنها بلا أي معنى في علاقتها مع الهوية بوصفها بحثا عن الذات داخل الكيان الجغرافي والتاريخي.
وإذا تتبعنا الشعر والرواية والمسرح فإن أيا من هذه الأنواع لم يكن مشغولا بالهوية السورية، على الرغم من أن الدولة القطرية الجديدة كانت بحاجة ماسة للوجود ككيان وهوية. وكان الاتجاهان السائدان في الرواية هما الواقعي الباحث عن مفردات الصراع الطبقي، والقومي الباحث عن شعارات الأمة التي تخوض صراع البقاء مع العدو الصهيوني، أو تبحث عن مفردات الوحدة الضائعة، وهي تنسى في خضم الصراع أن الهوية السورية لا تعني العربية فقط وبالضرورة، فثمة سوريون ليسوا عربا بل كردا أو أشوريين أو أرمن أو غيرهم من الهويات التي تعيش في سورية. كما أن النقد الأدبي تخلى عن المهمة، بينما ذهب المفكرون العرب إلى النزاعات الأيديولوجية: الماركسية مع القومية أو الإسلاموية. أو العكس. وقلما تجد لدى أي مفكر سوري بحثا أو دراسة في مقومات الهوية الوطنية.
كانت سورية هي الضحية في نهاية الأمر.