د . غادة بوشحيط – الناس نيوز ::
أطلقت منصة “نتفليكس” الأمريكية العالمية الرقمية المتخصصة في الصناعات الإبداعية منذ أيام مسلسلاً قصيراً اعتبر جزءاً ثانياً للمسلسل المصري الشهير “عايزة اتجوز”، الذي أنتج سنة 2010 (شركة الشروق للإنتاج الإعلامي)، وأدت دور البطولة فيه الممثلة التونسية هند صبري لقصص كتبتها المصرية غادة عبد العال وأخرجها المصري هادي الباجوري.
الجزء الذي أتخذ عنوان ” البحث عن علا ” انطلق من النهاية المفتوحة التي توقف عندها الجزء الأول، عندما تقدم الدكتور هشام السلاموني، (والذي أدى دوره الممثل والمغني المصري هاني عادل) طبيب الأمراض العصبية والنفسية لطلب يدها، وتوقف عند نهاية مفتوحة أيضا.
الحلقات الست تابعت مستجدات الحياة العاطفية للدكتورة علا عبد الصبور التي قرر زوجها في لحظة ما الانفصال عنها، الأمر الذي لم تتقبله الصيدلانية بسهولة.
سيعيش الفتى المدلل ابن “الهانم نظلي” أزمة منتصف العمر بحذافيرها النظرية، منطلقاً من اقتناء دراجة نارية، الهرولة نحو علاقة مع شابة في نصف سنه (أمنية).
المميز في شخصية “هشام” أنه سيقدم مثالا للطليق المتفهم والخدوم، فلا يطالب الدكتورة بشقتهما السابقة، وسيدفع نفقة سخية لابنيه، حتى أنه يقترح على طليقته أن يفرد لها معاشا خاصاً تعويضاً عن السنوات التي قضتها معه، الأمر الذي ترفضه الدكتورة علا، وتقرر الاعتماد على نفسها ، لإطلاق مشروعها الخاص، الأمر الذي سيثير استغراب طليقها، ولكنه لن يقف بوجه رغبتها مادامت قدمت له ضمانات بأنها لن تخل بمسؤولياتها كأم .
تتوالى الحلقات وتتوالى معها التجارب التي لا يحسن خوضها سوى علا عبد الصبور، فتتعرف على “لايف كوتش” يساعدها على إطلاق مشروعها، مقدما لها رسائل متعارضة عن مشاعره تجاهها، ثم رجل آخر يطلب منها الزواج، يقدم نفسه كرجل أعمال يجوب العالم، سرعان ما تكتشف بأنه مجرد مخادع محترف.
تتعرف بعدها على شاب يصغرها بثماني سنوات، تعيش معه تجارب غريبة عنها، قبل أن تتراجع عن الارتباط به، ثم على والد زينة صديقة ابنيها، التي تتقاسم يوميات العائلة، قبل أن يتراجع هو الآخر أمام ضغط من ابنته، إضافة لرفضه الدكتورة المشغولة جداً، وفي الوقت ذاته يطلب زوجها السابق منها أن يعودا، الأمر الذي سترفضه قطعاً علا.
الحقيقة أن هند صبري من أذكى بنات جيلها وقد عرفت كيف تسير كارييرها باقتدار منذ أن أدت أولى أدوارها في السينما، وهي بعمر الرابعة عشرة في إنتاجات مشتركة بين تونس وأوروبا، وفرضت نفسها كاسرة الخانات التي أريد الزج بها فيها منذ بدايتها في مصر كأدوار حسبت على الإغراء، أو أخرى كممثلة سينما فقط، قبل أن تطرق باب الدراما التفزيونية لتتربع على عرشها بمسلسلات متميزة كـ “عايزة اتجوز” و “إمبراطورية مين؟” والتي عرضت في قوالب كوميدية ساخرة، دون أن تخلو من عمق في الطرح قل نظيره في الإنتاجات الدرامية العربية.
إن ذكاء “هند صبري” لم يتوقف فقط عند دقة اختيارها لأعمالها، تجديد نفسها واختبارها في شخصيات مختلفة، إضافة إلى ظهورها الإعلامي الموفق التي تحاول فيه أن تزاوج بين الالتزام المهني، والحضور المعقول لدى الجمهور العربي عموما.
ولعل ذكاءها وحبها للتجديد والتجريب هو ما دفعها نحو المشاركة في الجزء الثاني لـ”عايزة أتجوز”، على المنصة التي غيرت وجه السينما في عالم العشرية الثانية من القرن الجديد.
لا شك أن مسلسل “عايزة اتجوز” قد شكل علامة فارقة في صناعة الدراما العربية عموما، ليس فقط لخفته، ولكن لكونه ناقش قضايا اجتماعية خاصة بالمنطقة العربية، بكل ما يتحكم فيها من موروثات ثقافية، مركزاً على وضعية النساء، قبل أن تتحول النسوية إلى مادة للتناول السطحي، والاستهلاك الرأسمالي كما هو الحال اليوم بعد اثنتي عشرة سنة من صدور الجزء الأول .
“عايزة اتجوز” اتسم بالعمق في الطرح، ناقش بخفة واقعاً عربياً مبكياً، مهما حققت نسوته من نجاحات (الدكتورة الصيدلانية الناجحة التي تجد نفسها أشبه بسلعة في سوق يفاضل ويفاصل فيها نماذج رجالية متفاوتة من عامل النظافة إلى الدكتور) ستصطدمن بواقع تأسيس العائلة، الذي سيشكل لحظة ولادة ثانية ليس بمعناها البهيج ولكن بمعنى ضرورة تعلم أبجديات حياة جديدة، والانحناء أمام متطلبات الشريك المحتمل والمحيطين بالشخصين، نهاية عالم وبداية آخر، إضافة إلى السعي نحو تحقيق المكانة الاجتماعية والتي لا تزال مؤسسة الزواج أساسية فيها.
لا تختلف مصر عن الجزائر وبقية مناطق شمال إفريقيا والشرق الأوسط في الارتفاع الكبير بنسب الطلاق، وخصوصا ذلك الذي تكون النساء السباقات في طلبه والمسمى خلعاً، لتتصاعد معه موجات الاستنكار والتفكير السطحي والساذج في مسبباته ومآلاته، وتحمل عموماً فيه النسوة وزر الخطيئة (الطلاق خطيئة في العالم العربي) في حق المجتمع بعدم تحملهن للظروف التي دفعتهن لذلك، كذلك فعلت علا، التي حولها الزواج إلى ربة أسرة تقليدية، ماكثة في البيت، أقصى طموحاتها أن ترى أبناءها وزوجها بصحة وسلامة، على الرغم من أنها تحمل أعلى الشهادات، ولها خبرة عملية ممتازة، عكس، وتلك المفارقة، العائلة التي تنحدر منها وتبدو أكثر عقلانية، حيث يتشارك الوالدان أعباء الحياة، فالأم سهير، التي تؤدي دورها سوسن بدر، لطالما اشتغلت كمدرسة والوالد عبد الصبور، الذي أدى دوره الممثل أحمد فؤاد سليم، موظف حكومي، كناية عن تحولات عميقة في المجتمعات العربية.
حالة النفاق العام المسيطرة في عدم مساءلة مشاكل التفكك في الأسرة التقليدية، والناتجة بالأساس من استمرارية مؤسسة الزواج بمعطياتها الموروثة، والتركيز في النقاشات على قشور زائفة دوناً عن جوهر المشكلات، كالتفكير البطريركي الذي تفرضه الأديان والثقافة في المنطقة، على الرغم من التحولات العميقة التي عرفتها النسوة من اكتساح التعليم وسوق العمل، هو الذي يجعلنا نتوقف ملياً أمام العمل “النتفليكساوي” الذي قدمته لنا هند صبري، التي صار المشاهد العربي يحملها مسؤولية أن تطرح مشكلاته العميقة بطريقة وحدها تمتلك مفاتيحها، بعيداً عن زيف المرحلة.
“البحث عن علا” قدم لنا صورة عن مجتمعات “ما بعد الربيع”، الذي لم يحمل من الربيع سوى اسمه ( ان صح التعبير هو مرحلة مخاض وانتقال ، مرحلة لم تستقر بعد وتحتاج لجيلين تقريبا حتى تظهر النتائج كما يقول المفكر ابن خلدون ) ، راكباً كل التريندات الممكنة.
تتحول ابنة عبد الصبور إلى رائدة أعمال، وتنجح معتمدة على “اللايف كوتشينغ والتنمية الذاتية”، تستعيد صداقة قديمة مع نسرين شفيق أو رضا المتحررة، والتي لا نعرفها نحن من تابعنا المسلسل منذ أزيد من عشر سنوات.
يعاني سَليم ابنها من مزيج بين فرط الحركة والإدمان على الألعاب الإلكترونية، مقدمة صورة عن طبقات المجتمع المصري ( وربما العربي كله ) التي ولجت بحر العولمة وصنوف الاستهلاك التي تفرضها دون مشكلات، وهو أمر منطقي إذا ما قورن بالطبقة الاجتماعية التي أصبحت علا تشكل جزءاً منها.
لكننا أضعنا علا عبد الصبور التي وإن انتهت بأن وجدت نفسها أخيراً بعد بحث طويل، بعيداً عن ضغط الحاجة سهير وطنط موناليزا، وساءلت، سطحيا، المجتمع الذي أصبحنا نشكل جزءاً منه، فهي لم تعد تشبهنا، عكس جزء مسلسها الأول بحكاياته المنطلقة من عمق المجتمع البسيط المصري والعربي عموماً.
البحث عن علا لا يزال متواصلا، ولعل ذلك ذكاء من المخرج والكاتبة وهند صبري، فالفرصة لا تزال قائمة لتتدارك علا عبد الصبور نفسها، وتحكي حكاياتنا، وتحطم أصنام مؤسسة الزواج التقليدية و”كَلوناتها” الحديدية بمعول السخرية والخفة، حتى يتفكر في واقع نسوتنا من خلال مفاتيح ثقافية أكثر محلية، مسائلين طبقات أقل حظاً حول سبل بعث ثورة عميقة ثقافية وفكرية، كما فعل حازم عبد الصبور، حينما قرر أن يرتجل فرحاً لأخته، كاسراً قيود التقاليد، تساعدنا على إخراج رؤوسنا من الرمال، وانتقاد موروثاتنا بصراحة، دون المرور عبر فيلترات “نتفليكس”، التي غبطتنا حتى جمال ضوء الشمس المنعكس على شوارع القاهرة حين جعلته رسماً مطابقاً عن نور شمس نيويورك.
لعل البعض يعتقد أن الربيع العربي انتج مجتمعات تهرول نحو العولمة مضاعفة سرعتها في قطع علاقتها مع تراثها ( هذه ليست كل الحقيقة ، والواقع الذي هو أكبر برهان أن الربيع العربي حرك النتيجة التي وصل لها عفن الاستبداد بشقيه الديني والديكتاتوري … وبالتالي نحن أمام مخاض تتقاذفه قوى التأثير والمصالح إلخ ) سعي ظاهري فقط، تساعد وسائل التواصل الحديثة على خلق إحساس به، في حين تفيض أحشاء هذه المجتمعات بالكثير من الظواهر التي تستوجب التزاما فكريا، ونقاشا على الفنون بصنوفها والدراما تحديداً أن تقوده وتؤثر فيه، مخافة أن نجد أنفسنا أمام أمراض نفسية واجتماعية يصعب علينا مداواتها في القريب المتوسط أكثر خطراً من “أي دي أيتش دي” والاكتئاب، تحولنا إلى “زومبيز” وتهدد وجودنا كاملاً.