ريما بالي – الناس نيوز ::
خصصت الأمم المتحدة يوم 20 يونيو/حزيران من كل عام للاحتفال باليوم العالمي للاجئين، وذلك منذ العام 2000 حين اتخذ القرار في الرابع من شهر ديسمبر/كانون الأول، وتم اعتماد يوم 20/06 ابتداء من العام 2001.
نعم صار للاجئين يوم عالمي، مثل اليوم العالمي للمكفوفين، واليوم العالمي لضحايا العنف المنزلي، واليوم العالمي لمكافحة السرطان، واليوم العالمي للغابات ومكافحة التصحر…الخ.
حسب ويكيبيديا، فإن الأمم المتحدة اعتمدت هذا اليوم من العام لاستعراض هموم وقضايا ومشاكل اللاجئين والأشخاص الذين تتعرض حياتهم في أوطانهم للتهديد، وتسليط الضوء على معاناة هؤلاء وبحث سبل تقديم المزيد من العون لهم وذلك برعاية من المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة (UNHCR).
جميل هذا التكافل الإنساني، ولكنني عندما أفكر بهذه اليوم “العالمي”، يتملكني انطباع شخصي (لا أحب أن أعممه لكنني لا أملك التنصل منه)، أن ما يحدث هو تصنيف لبعض البشر في فئة معينة، كأن سكان الكرة الأرضية انقسموا إلى نوعين: بشر عاديين، ولاجئين!
ما علينا، يبقى هذا التصنيف الذي أتكبّر عليه وأستاء منه، أرحم من التصنيف الآخر الذي يفرض نفسه على كل إنسان ابتلي بحرب عمياء في بلده دون أن يختار، فيختار له القدر فئة من اثنتين: ضحايا أو ناجين.
ولعل ما يؤلم أكثر، وما يذل أكثر، أن هذا اللقب الذي أخجل منه وفرحت عندما مسحته عن بطاقة إقامتي بعد جهد (طبعا بعد حصولي على إقامة نظامية)، صار حلماً غالياً للكثيرين، هدفاً يدفعون في سبيل الوصول إليه كل غال ونفيس، والأمثلة كثيرة، والقصص متنوعة، وأشدها اعتصاراً للقلب، قصة الشاب الذي باع كليته ليغطي تكاليف الخروج من الوطن المفترس، سعياً خلف نيل الشرف الكبير، والدخول في فئة اللاجئين، الذين تحتفل لهم الأمم المتحدة، بيومٍ عالمي كل عام في العشرين من يونيو/حزيران.
هل بلغت البشاعة مداها الأقصى هنا؟ للأسف لا، دعوني أذكركم بما هو أبشع من كل ذلك: النفق المظلم أو البرزخ اللا إنساني، الذي يفترض أن يعبر به كل هارب من السعير قبل أن يصل إلى نور اللجوء الإنساني.
ماذا يعني هذا؟ إن الحصول على حق اللجوء أو (شرف اللجوء)، لا يأتي بمجرد أن تستعرض معاناتك وحاجتك الماسة للهجرة مؤكدا على ذلك ببيانات ووثائق رسمية، بل عليك بعد كل هذا، أن تقبع بانتظار فرصتك، ودورك، حسب الإجراءات المتبعة، والتي صارت بطيئة وغبية وعمياء وجائرة بشكل يناقض بدرجة فاضحة الغاية الذي وضعت من أجلها، إجراءات تسير ببطء لا يتناسب ولا بأدنى حد مع النشاط الهائل لطغاة العالم ومجانينه، الذي يعملون على رفد فئة اللاجئين بأعضاء جدد تتكاثر أعدادهم كل عام بمتوالية هندسية أو سوريالية مجنونة.
على سبيل المثال لا الحصر، دعوني أحدثكم عن واحد من أولئك العالقين في ذلك البرزخ اللا إنساني، هو شاب حباه القدر بأجمل ابتسامة يمكن أن تطبع على وجه إنسان، وخصه بمواهب عالية المستوى، وزاد عليه فوق كل ذلك حماساً متقداً وطموحاً لا سماء له، جعلاه يغادر سوريا في عامه الثامن عشر هارباً من الحرب. في بيروت حيث استقر معتمداً على نفسه وبعض الدعم من والديه، فاز لذكائه الحاد وتميزه بمنحة للدراسة في الجامعة الأميركية، فالتحق بها وتخرج منذ أربعة أعوام بتقدير ممتاز.
بعد أن حصل على إجازته الجامعية المرموقة، فقد حقه بالإقامة الدراسية التي تحصَل عليها في لبنان، فتقدم طالباً اللجوء الإنساني إلى كندا، وخصوصاً حين لم تعد بيروت خياراً متاحاً، تبعاً للأزمات الخطيرة التي تعاني منها على كل الأصعدة.
منذ أربع سنوات، هذا الشاب ينتظر، فقد حقه بالعمل بدون أوراق رسمية، وينتظر، فقد حقه بالسفر بانتهاء صلاحية جوازه السوري، وينتظر، فقد ابتسامته الصبيانية الخلابة، وهو ينتظر، جمّدت السفارة نشاطاتها بسبب وباء كوفيد 19، هو ينتظر، انفجر مرفأ بيروت بمشهد أعاده إلى حرب سوريا، تجمّدت الأعمال والحياة في بيروت، هو ينتظر، أعيد تنشيط أعمال السفارة بعد انحسار الوباء نسبياً، فاستدعي للمقابلة الرسمية، قُبل ملفه، ونال الموافقة الممهورة بختم السفارة الكندية، وضع توقيعه على كل الوثائق بما فيها بطاقة السفر، أجرى الفحص الطبي اللازم أصولاً، طلب منه بعد كل هذا، أن يكون جاهزاً (وهو كذلك منذ أربع سنوات!!)، وأن يعود للانتظار، إلى انتظار إشعار يعلمه بموعد السفر، ظلّ ينتظر، طالت الشهور واشتعلت الحرب في أوكرانيا، هو ينتظر، انفجرت أزمة اللاجئين الأوكران، وتربعت قضيتهم على قمة الأولويات الإنسانية، وهو.. السوري، هارب الحرب المخضرم، مازال عليه أن ينتظر، لأن العالم صار مشغولاً بالمنكوبين الطازجين الهاربين من حرب طازجة لم تعد الحرب السورية البائتة تقوى على منافستها في البؤس واستدرار الشفقة، إذَا، اصبر يا صديقي، وانتظر.. انتظر لجوءك الإنساني في نفقك المظلم المسموم الهواء، انتظره مجرداً من كل حقوقك الإنسانية، لأسابيع أخرى، أو أشهر أو سنوات، علّق إنسانيتك في هذا الانتظار اللا انساني، فـأنت، إن حالفك الحظ ولم يشعل مجرماً مجنوناً أخر، حرباً أخرى في بقعة أخرى من الأرض، قد تنال شرف اللجوء الإنساني أخيراً، فتفعل من جديد وضعية الإنسان في وجدانك، وتنال شرف اللقب، والاحتفال في يوم اللاجئ العالمي في العشرين من يونيو/حزيران في كل عام، حيث يستعرضون هموم ومشاكل وأحوال اللاجئين، ويصفقون لشجاعتهم.
أنا عن نفسي، لا أهتم بهذا اليوم الذي سموه اليوم العالمي للاجئين، (ذلك اليوم، الذي أخشى أن يأتي زمن يصبح فيه المعنيون بالاحتفال به أكثر من المعنيين بيوم رأس السنة)، وإنما أتمنى، لو يكون ثمة يوم، بل أسبوع، بل سنوات، لمكافحة “صناعة اللاجئين”… ومعروف للجميع، كيف يصنع اللاجئون ومن يصنعهم، ومن يرميهم خارج إنسانيتهم، عالقين في آبار لزجة الجدران، تطل فوهاتها العسيرة المنال، على حرية وكرامة وإنسانية، مغمسة بلقب لاجئ.
هذا العام ورغم أنني فقدت حقي بالاحتفال بيوم اللاجئ بعد أن تنازلت عن حق الحماية الدولية، إلا أنني لن أمضي يوم 20 يونيو/حزيران من دون احتفالات، فهو للصدفة عيد ميلادي، وإحدى أمنياتي العزيزة لهذا اليوم، أن يخرج كل العالقين من برازخهم، إلى نور لا تشوب صفاءه أيه تصنيفات فئوية أو لا إنسانية.. وكل عام وأنتم وأنا.. مستمرون في محاولة أن نكون بخير.