د . محمد حبش – الناس نيوز ::
في الذكرى الخامسة لرحيل طيب تيزيني 18/5/2019
ليس هذا العنوان جديداً ولا متكلفاً، فقد كان ثنائية بالغة الشهرة في تسعينات القرن الماضي عندما قام قسم الفلسفة في كلية الآداب بعقد ندوة حوارية حول الإسلام والعصر بين الرجلين، وشهدت إقبالاً منقطع النظير، وفي السياق ذاته عقد عادل اليازجي حواراً مماثلاً في التلفزيون السوري، كما قمت شخصياً باستضافة الرجلين في برنامجي على قناة آر تي تحت عنوان قضايا ساخنة.
ولكن الحوار الذي تلقاه المثقفون بروح رياضية ومعرفية لم يكن كذلك في أدغال الإيديولوجيا، ففي إطار الاستعدادات للحوار الثاني 1995 تم تحشيد مئات من الغاضبين الذين جاؤوا على خلفية سحق الإلحاد وإقامة الحجة البالغة ضد توجهاته وبالتالي الاستعداد للنصر الكبير على الوهم المادي الديالكتيكي، وفي السياق المقابل تطوع عدد من الناقمين على الفقه الإسلامي للدفاع عن الرجل كملحد أحمر، ولم يكن كذلك بكل تأكيد، وللأمانة فإن الإسلاميين كانوا أكثر عدداً وأشد سخطاً وغضباً، وبات المشهد على أبواب جامعة دمشق يعكس أشد درج التوتر والاصطفاف، وحين رأى المحتشدون الغاضبون على الصفين أبواب مدرج الجامعة مغلقة توثبوا الأسوار، واشتبك القوم بالكلام والوعيد والزمجرة وعلى الفور قامت الجامعة بإلغاء الندوة في اللحظات الأخيرة.
ولكن هل كانت هذه الانفعاليات صورة عافية وبراءة في الشارع السوري؟ للأسف لقد تم النظر إلى هذه الانفعاليات بأنها غضبة مضرية في الله وفي سبيله وأنها ظاهرة عافية ورشد في الصحوة الإسلامية التي تتربص بأعداء الإسلام ولن تسمح لهم مرة أخرى باختيار سبل الضلالة والزندقة بعد ان قامت عليهم البراهين الحاسمة.
فهل كان الحوار بالفعل جدل الإيمان والكفر، وهل يتعين إجراء هذه الحوارات للوصول إلى فكرة ساحقة وفكرة مسحوقة؟ وهل كان ما كرسته الوقائع الثلاث صحيحاً لجهة تأكيد القطيعة المعرفية التامة بين الإيماني والعقلاني، ووجوب براءة المفكر من أحدهما حتى يضمن لنفسه مقعداً في الجانب الآخر.
من المؤكد ان التسجيلات المحفوظة للندوة لا تتضمن أي هجوم على الإسلام أو تسخيف للإيمان أو تكذيب لرسول الله بل حوار هادئ في جدل العقل والنقل، يعيد للذاكرة ما كتبه أئمة الإسلام في التاريخ في صحات كتب علم الكلام وجهد الفيلسوف لفصل المقال في إثبات ما بين العقل والنقل من الاتصال.
للاسف إنها إحدى أبرز كوارثنا التربوية التي تعيش واقع المرض الكامن ثم تنفجر لدى أول استثارة.
ولكن هل هذا بالفعل هو المطلوب من المؤمن؟ تبدو الإيديولوجيات عموماً مشاريع تدابر مجتمعي، تعيد اصطفاف الناس في وهم الذات الذي يستهدفه تآمر الآخر، ولا شك أن هذا المنطق كان وراء الدول الشمولية في كل مراحل التاريخ وقد أدى بشكل تلقائي إلى التوتر المستمرفي سائر الأحوال، كما أدى إلى الحرب في أحوال كثيرة.
لست أدري لماذا يجد الشموليون أدلتهم في الإقصاء في نص القرآن الكريم ولا يجد المعرفيون أدلتهم في الانفتاح في القرآن الكريم ذاته، فمن المؤكد ان نصوصاً في القرآن الكريم دعت إلى مواجهة مباشرة رافضة للحوار مع الآخر: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، فلا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً، بل إن هذه الإقصائية تحولت إلى واجب قتالي وحربي: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ، قاتلوا الذين يلونكم من الكفار، فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وهي آيات كثيرة لا تستغلق على باحث، ولكنها من وجهة نظري تتحدث عن عدو غامض غير محدد الإحداثيات، ولو ذهبت تنظر في تعريف الفقهاء لمصطلح (المشركين) فإنك ستجد نحو عشرين محدد معرفي تبدا ممن يقيم الصلاة رياء للناس، ومن يحلف بغير الله ، وهما بالإجماع غير مقصودين بخطاب الجهاد، وتنتهي إلى العدو المحارب المعتدي الباغي، وهذا كله يستوجب اجتهاداً مستقلاً لتحديد مواضع البسمة من مواضع الكلمة من مواضع السيف.
ولكن نصوص احترام المعرفة مهما كانت أكثر حضوراً في النص القرآني، وأكثر ارتباطاً بمقاصديته، فقد جعل صلة المسلم بالأديان السابقة والحكمة اللاحقة قائمة على منطق مصدقاً لما بين يديه وهي عبارة تكررت أربع عشرة مرة في القرآن الكريم، وهي تستقيم تماماً مع دلالة لكم دينكم ولي دين، ومع ظاهر الآيات البينات: وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله، لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين.
هل كان من العقل أن يطارد رجل مثل طيب تيزيني كملحد أحمر يتآمر على كتاب الله وسنة رسوله ويعمل للدوائر المعادية للإسلام في حين أن دراساته العميقة كلها تتحدث عن جدية الحضارة الإسلامية واستقلاليتها ووجوب التمرد على مركزية الحضارة الأوربية وتقديم البديل الذي جاء به الإسلام في سياق تطور معرفي حقيقي ذاتي؟
لقد تعرض العلماء في التاريخ الإسلامي لهذا اللون من المطاردة بكل تأكيد وهناك أخبار محزنة عما لقيه أبو حنيفة وابن جرير الطبري وابن سينا وابن رشد والرازي والفارابي من الدهماء، ولكن يجب القول أيضاً أن هذه كانت ممارسات الغوغاء، في حين حظي كل منهم على الأقل بفترة من حياته بحاكم مستنير استوزرهم وتبناهم، ونالوا تالياً مكاناً يليق بهم كأعلام بارزين في الحضارة الإسلامية.
بقي ان أقول بشجاعة إن علينا الاعتراف كمؤسسة دينية أننا كنا نمارس في دورة الحياة الصاخبة دور الدهماء، ومن المحزن أن نعترف باننا لم ننظر لهذه القامات العلمية الكبيرة نظرة الاحترام التي يستحقون، بل ظلت عندنا محض حالات من الزندقة المأجورة وأن حضورنا ومشاركتنا في الحوارات التي كانت تقام لهم كانت يتم بمنطق حوار باب الحارة الديداتي السواغارتي حيث ننتظر أن نقول: لقد القمه حجراً ومسح به الأرض وكشف عواره وفضح اباطيله إن الباطل كان زهوقاً.
من الواجب في هذه اللحظة التاريخية أن نشير باحترام إلى الطيب التيزيني كرجل ينتمي إلى العصر العقلاني في الإسلام ومن المدهش أنه كرّس حياته للدفاع عن أصالة الحضارة الإسلامية واستقلاليتها ورفضه اللحاق بالمركزية الأوربية، وهو يستحق ان يعامل بروح الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي فحين كان الرشيد والمأمون يعقدون المناظرات بين أبي حنيفة وبين الدهريين على شواطئ دجلة، كان كل فريق يستوفي حججه وبراهينه، وكانت النخب الحاضرة تبحث عن امتلاء المعرفة وتفاعلها، وكان الدهريون (الملاحدة) الذين يدافعون بشجاعة عن الدهرية والطبائعية وقِدَم العالم ينهون محاضراتهم باحترام ثم ينامون في بيوتهم دون أن يخافوا من سيف الردة والزندقة الذي كان محض وهم يرفعه الاستبداد حيث يشاء ويغمده حيث يشاء، ويرتبط أصلاً وفصلاً بغياب العقل وحضور الانفعال والوهم.
هل تمتلك المؤسسة الدينية شجاعة الاعتراف وتقوم بمراجعات عميقة لإدراك بؤس سلوكيات التكفير والزندقة التي مارستها ضد المخالفين، وتدرك انها مارست دون وعي تحالفاً مع الاستبداد القمعي الذي يعمل باحتراف ومنهجية نحو تطفيش بائس للكفاءات والمواهب والإبداعات التي كانت تشارك ببصيرة وعلم في نهضة المجتمع العربي؟
هل حان الوقت لتراجع المؤسسة الدينية أحكامها الجاهزة ضد رجال النهضة الإسلامية والعربية الذين كانوا أبرز مشاعل القيام والنهضة محمد عبده وقاسم أمين وطه حسين وعلي عبد الرازق وفرح أنطون وبطرس البستاني ورفاعة الطهطاوي وجرجي زيدان وحسن حنفي ونصر حامد أبو زيد وفرج فودة وجمال البنا… وصولاً إلى الزعماء السياسيين محمد علي باشا ومصطفى كمال أتاتورك والحبيب بورقيبة …… رضي الله عنهم أجمعين