[jnews_post_author ]
اختار الناقد والروائي السوري الراحل ” محمد رضوان ” أن يتوج أعماله النقدية بكتاب حمل العنوان التالي : ” التجريب وتحولات السرد في الرواية السورية “. وكان من سوء حظ هذا الكتاب الهام أنه قد صدر عن اتحاد الكتاب العرب في سوريا (2013 ) ذلك أن الجهة المسؤولة عن النشر في الاتحاد لا تُعنى البتة بتوزيع منشوراتها، أو الإعلان عنها، ولا تهتم بموضوع التسويق أو الدعاية للكتب التي تنشرها، فتبقى حبيسة المستودعات أعواما طويلة. وهكذا اختفى كتاب ” التجريب ” ولم يأت على ذكره أحد ممن اعتادوا كتابة المراجعات في الصحافة، والراجح عندي أن معظم الروائيين الذين تناولهم البحث النقدي لم يسمعوا بهذا الكتاب.
أهمية هذا الكتاب تأتي من بابين اثنين : الأول هو أن محمد رضوان حقق انتقالا نوعيا هاما في مسيرته كناقد ( وهو روائي لديه العديد من الأعمال الروائية أيضا) اعتبارا من كتابه هذا الذي بات كتابه النقدي الأخير الذي منحه هذا العنوان اللافت ” التجريب ” والعنوان شديد الوضوح، والرسالة مباشرة، إذ إن الناقد هنا يذهب في اتجاه البحث عن البناء الفني للرواية، بل هو يذهب في اتجاه البحث عن الطرائق الكتابية الجديدة، والناقد هنا يحاول، وهي محاولة مهمة ونوعية، أن يتتبع أساليب السرد في الرواية العربية، من خلال النماذج الروائية السورية التي اختارها. وهذا يعني أننا نقترب في النقد، أي في نقده، من جماليات الرواية، من الوجود الحقيقي للنوع الأدبي، من العناصر التي تسمي الرواية رواية بفضلها وبسببها، والتجريب هو أحد الخطوات الهامة والضرورية في مسيرة الوجود الروائي.
وأما الجانب الثاني من أهمية الكتاب فهو أنه تابع فيه الرواية السورية دون غيرها من الروايات، وهي متابعة لم تحظ الرواية السورية بمثلها إلا في القليل من أعمال النقاد السوريين ( يتصدر نبيل سليمان المشهد بكتابه ” الرواية السورية ” وسمر روحي الفيصل بكتابه ” تجربة الرواية السورية ” ) وهو بذلك يحاول تجاوز حالة التجاهل واللامبالاة والاستخفاف أحيانا، أو الافتراء ، أحيانا أخرى على الرواية السورية من قبل بعض الذين تحدثوا عنها، من غير السوريين، واتهموها باتهامات كثيرة عطلت قراءتها في الوسط العربي المهتم بالقراءة.
وفي اعتقادي أن هذا الكتاب يحقق جديدا في المجال النقدي العربي الذي اتجه في السنوات الأخيرة نحو دراسة ونقد الموضوعات، وهو اتجاه متأثر إلى حد بعيد بالمشاغل التي تبحث عن الوظيفة الاجتماعية للأدب والفن عامة، وقلما تحفل مثل تلك الدراسات بالبحث عن القيمة الفنية للرواية . فالقمع مثلا ، أو القومية، أو الريف، أو العمال، أو الأرض، ليس مشكلة روائية، بل مشكلة سياسية واجتماعية في الدرجة الأولى، ومثله كذلك الأرض والحرية والمرأة وغيرها. فكل هذه الموضوعات التي انشغل بها النقد العربي كانت تبحث عن أسئلتها السياسية أو الاجتماعية التي “يجب” أو يفترض أن تكون الرواية قد أجابت عنها بطريقة ما. بينما كانت الرواية تستمد قيمتها من فنيتها، أي من الجانب الجمالي الذي تجترحه أولا، لا من رسالتها، ولا من الموضوع الذي يمكن أن يشغل مضمونها. ومن الطبيعي اليوم أن نردد، أو نكرر القول أنه كلما كتبت الرواية بطريقة فنية عالية المستوى كلما بدت رسالة الروائي أو خطابه الفكري أكثر قوة.
وعلى الرغم من أن الكلام يبدو بديهيا، غير أن اهتمام النقاد في الغالب ينصرف إلى ما تقول الرواية، لا إلى كيف تقول، ولهذا نقرأ كتبا لها عناوين مثل الاتجاه القومي في الرواية، أو الريف في الرواية العربية، بينما تقل إلى حد ملحوظ العناوين التطبيقية التي تتناول تقنيات الكتابة الروائية من خلال النماذج الروائية.
يحدد محمد رضوان منذ البداية أشكال التجريب في الرواية السورية بثلاثة مستويات : الأول هو ابتكار عوالم متخيلة جديدة جديدة لا تعرفها الحياة العامة، ولم تتداولها السرديات السابقة فيما هي تبلور جمالياتها الخاصة. والثاني هو توظيف تقنيات فنية محدثة لم يسبق استخدامها في هذا النوع الأدبي، مع ملاحظة أن وجود بعض هذه التقنيات في الثقافات الأخرى لا يسلب منها الطابع التجريبي المحلي للمغامرة الروائية. والثالث هو اكتشاف مستويات لغوية في التعبير تتجاوز نطاق المألوف في الإبداع السائد. ويجري ذلك عبر توظيف التراث السردي أو الشعري أو اللهجات الدارجة أو أنواع الخطاب الأخرى.. وسوف يتطلب تحديد هذه المهام الشاقة والصعبة من الناقد أن يمتلك عدة نقدية كافية للحفر في تاريخ الرواية السورية، وملكة فنية تستطيع اكتشاف الجديد في الفن وفي التقنية وفي اللغة الروائية.
تتبع الناقد تتبعا شبه مجهري أشكال التجريب في عشرين رواية لعشرين روائي سوري من فترات زمنية مختلفة. على أن تلك المتابعة أفادت في أنه استطاع أن يجمل التجربة الروائية مجتمعة في أربعة عناوين تشمل في رأيه تحولات السرد الروائي السوري ، وهي : تحولات السرد في البنية واللغة ، والخطاب السردي والبحث عن الحرية، الزمن ولعبة السرد، ثم السرد وتحولات المكان.
الطريقة الوحيدة للتعرف إلى الكتاب هي قراءته.
——————————-
ممدوح عزام