فواز حداد – الناس نيوز ::
لم تعد التحقيقات تستثني أحداً، مؤخراً طالت سيدة الجريمة الكاتبة أغاتا كريستي، المفارقة أن لديها طاقم من المحققين السريين، في حين تتعرض لتحقيق معها بمفعول رجعي من دون السماح لها بالدفاع عن كتبها، فقد فارقت عالمنا عام 1976.
تعتبر أجاتا كريستي الروائية الأكثر شعبية وشهرة في أرجاء العالم. أصدرت نحو خمسة وثمانين كتاباً، أغلبها روايات بوليسية، ترجمت إلى ما يزيد عن مئة لغة، واختارتها موسوعة جينيس العالمية للأرقام القياسية باعتبارها الروائية الأكثر مبيعاً في العالم، فقد بيع من كتبها ما يزيد عن ملياري نسخة.
شملت التحقيقات مؤلفاتها التي كتبت من عام 1920 إلى عام 1976، ليس بسبب ما ارتكب فيها من جرائم، خاصة أن أبطالها هيروكيول بوارو ومس ماربل، اكتشفوا المجرمين الحقيقيين، وقدموهم للعدالة. وإنما جرى التحقق مما تلفظوا به من أقوال وآراء منافية للحساسية الجديدة في الغرب تجاه ما يمس الأعراق الأخرى باعتباره مهينا أو غير مناسب.
قام المحررون في شركة “هاربر كولينز” الناشر لروايات كريستي، بإجراء تعديلات أدت إلى حذف العبارات العنصرية العدائية، واستبدالها بعبارات أقل حدة، ومنها ما أعيدت صياغته، أو أزيلت من الطبعات الجديدة. عموما أخضعت لإعادة كتابة صحيحة “سياسياً”. ولم يقتصر على الطبعات الإنكليزية، بل امتدت إلى ترجماتها، كي تكون منسجمة مع النسخ الصادرة في اللغات الأخرى. وهي عملية أشبه التنقيح، وكانت عملية دورية، ففي عام 2020 استبدل عنوان روايتها “عشر عبيد صغار” إلى “كانوا عشرة”.
أما ما تسرب من نماذج عن التعديلات الجديدة، فمثلاً وصف “السكان الأصليون” أصبح “السكان المحليون”، أو ما يتعلق بالمصطلحات المسيئة لهيئة أو بنية شخصيات معينة، كما في وصف شخصية بأنها “يهودية بالطبع” وكان في رواية “قضية ستايلز الغامضة”.
كذلك في رواية “الموت على النيل” يقوم هيركيول بوارو بالتحقيق فى جريمة قتل وقعت على متن رحلة بحرية، وفيها يتردد وصف “الشعب النوبي، فأزيلت من الرواية الإشارات إليه، فأصاب التعديل عبارة “الملاح النوبي” وغدا “الملاح” فقط .
وأيضاً في رواية تقوم بالتحقيق فيها مس ماربل، عند وصف شخصية قاضٍ هندي يعاني من نوبة من الغضب، تم التغيير في النص من “مزاجه الهندي” إلى “مزاجه”. وإجراء تغيير مماثل في رواية “اللغز الكاريبي” التي تدور في فندق منتجع في جزر الهند الغربية. حذفت عبارات تتضمن “أسنان بيضاء جميلة” و “أسنان جميلة”، استخدمت لوصف عامل فندق مبتسم!! .
يضاف إلى ما سبق حذف أجزاء من حوار غير متعاطف، أو تعديلات في المونولوج الداخلي للراوي، وكل ما يحتوي على شتائم واضحة، وهو ما جرى تغييره كما في حوار لسائحة تشكو من مضايقة الأطفال. فالحوار في النص الأصلي: “إنهم يعودون ويحدقون، ويحدقون، وأعينهم ببساطة مقززة، كذلك أنوفهم. لا أعتقد أنني أحب الأطفال حقاً”. بينما في النسخة المعدلة “يعودون ويحدقون ويحدقون. لا أعتقد أنني أحب الأطفال حقاً”.
لن يقتصر تشذيب الروايات على أجاتا كريستي، بل سيشمل تحرير روايات رولد دال وإيان فليمنج وإينيد بليتون بسبب المخاوف نفسها المتعلقة تتعلق بحساسية الأجيال المعاصرة، كي تصبح ملائمة للقراءة.
هذه العملية لا تدين الروائيين، بقدر ما تدين الحضارة التي يعيش الروائي تحت ظلالها ويعبر عن قصد أو عن غير قصد عنها، ولا شك أنه في استدراكها حرص على عدم ترويج وترسيخ الأفكار العنصرية والعدائية. فإذا كان ثمة ما هو مخز في هذا الماضي الحضاري فهو بالضرورة الاستعمار.
المفارقة، أن هذا التحرك يأتي في وقت يتزايد فيه العداء تجاه الأعراق الأخرى، كذلك اضطهاد المسلمين واللاجئين، واستقرار أوضاع النهب العالمي، ولم يكن لها الاستمرار إلا بترسيخ الدكتاتوريات، وترك الشعوب للجلادين، وتسلط الطغاة.
أخيرا لا بد من الإشارة إلى أن بعض النقاد استنكر هذه العملية واعتبرها رقابة مرفوضة، ويخشى من امتدادها إلى كلاسيكيات الأدب، وأن تطال شكسبير وغيره من كبار الأدباء، وفي هذا خطوة تستحق النقاش، ألا تعد هذه الإجراءات تدخلاً في الأدب لا يقل عن التزييف، والتعمية على فترة من تاريخ ارتكبت بحق الشعوب الأخرى عنصرية واضحة، إذ لا تخفي تلاعباً في الماضي، على سبيل إخفاء حقائق سعياً لتجميل حضارة، كان لها أخطاؤها الكبرى.