أكاديمي وخبير اقتصادي .
التضخم المفرط أو الهايبرإنفليشن هو مصطلح لوصف الزيادات السريعة والمفرطة، والخروج عن السيطرة في الأسعار في الاقتصاد، في حين أن التضخم هو مقياس لوتيرة ارتفاع أسعار السلع والخدمات، فإن التضخم المفرط يؤدي إلى ارتفاع التضخم بسرعة، وعادة ما يقيس أكثر من 50 ٪ شهرياً.
رافق التضخم الجامح معظم الدول التي دخلت في عمليات التحول الاقتصادي، خاصة دول الاتحاد السوفييتي السابق، حيث وصلت إلى 34 ألف بالمئة في أرمينيا عام 1994، وجورجيا 76 ألف بالمئة، والواقع الأسوأ كان أوكرانيا حيث وصل التضخم إلى 1.8 مليون بالمئة، وصربيا 156 مليون بالمئة عام 1994.
التضخم الجامح رافق معظم الثورات في العالم، فقد وصل التضخم أثناء الثورة الأميركية ما بين عامي 1777 و 1780 إلى 2701 بالمئة، ووصل التضخم الجامح أثناء الثورة الفرنسية وخاصة ما بين عامي 1790 و1796 إلى أكثر من 26 ألف بالمئة، وكذلك وصل التضخم أثناء الثورة المكسيكية إلى أكثر من 10 آلاف بالمئة عام 1916، كما وصلت نسبة التضخم في نيكارغوا عام 1991 إلى 11 مليار بالمئة، وأنغولا 62 ألف والكونغو 69 ألف بالمئة، ويبدو أن الثورة السورية ليست استثناءً حيث تسبب تأخر النظام السوري بالاستجابة لمطالبها واستخدام الآلة العسكرية، والاستعانة بجيوش الدول لإنهاك الجسد الاقتصادي السوري المتعب أصلاً قبل عام 2011، الأمر الذي استدعى انفلات الأسعار من عقالها، وبدء مشوار التضخم الجامح، وهبوط المستوى المعيشي للمواطن السوري، وللأسف الدخول في مرحلة مخيفة من الجوع والفقر لم يسبق لها مثيل في تاريخ سوريا المعاصر.
واقع الأمر أنه ظهر هنالك علاقة واضحة بين الديكتاتورية غير المرغوب بها غربياً، والتضخم الجامح، ففي كل دولة ناصبت العداء جهاراً نهاراً، وتحدت بشكل مباشر سياسات الولايات المتحدة، تعرضت لحصار خانق دمّر اقتصادها وسعر عملتها.
سجلت زيمبابوي ثاني أعلى معدل للتضخم المفرط في التاريخ، فكان معدل التضخم في البلاد لشهر نوفمبر 2008 مذهلاً بنسبة 79.6 مليار في المئة، لكن موغابي أصر على مقارعة “الامبريالية” و” المؤامرة الكونية ضد زيمبابوي”، بينما الشعب يتضور جوعاً. وعليه في 15 نوفمبر 2017، وضع الجيش الوطني في زيمبابوي موغابي قيد الإقامة الجبرية، بعد 30 سنة من الجوع والظلم، وأقيل من منصبه كزعيم لـ”زانو بي إف” كحزب حاكم (يشبه حزب البعث)، وأعطوه إنذاراً نهائياً، وطالبوه بالاستقالة، وإلا فإن الحزب سيقدم قرار عزل ضده. في خطاب متلفز على المستوى الوطني في تلك الليلة، رفض موغابي القول بأن يستقيل، بناء عليه قدم نواب الحزب طلب الاستقالة في نوفمبر 2017.
تفاوض موغابي “الممانع” وزوجته على صفقة قبل استقالته، والتي بموجبها تم إعفاءه هو وأقاربه من الملاحقة القضائية، وستظل مصالحه التجارية على حالها، (التي كان يقوم بها من أجل مقاومة الامبريالية طبعاً!)، وأن يتلقى دفعة لا تقل عن 10 ملايين دولار “لتساعده في التغلب على المؤامرة الكونية”.
في يوليو 2018، قضت المحكمة العليا في زيمبابوي بأن موغابي استقال طواعية، بعد أن بقي في الحكم ثلاثين عاماً.
بعد الانتخابات الرئاسية الفنزويلية عام 1998، بلغ معدل التضخم، الذي يقاس بمؤشر أسعار المستهلك 35.8٪ في عام 1998، وانخفض إلى 12.5٪ في عام 2001 لكنه ارتفع إلى 31.1٪ في عام 2003، في محاولة لدعم البوليفار الفنزويلي، عزز انخفاض مستوى الاحتياطيات الدولية للحكومة، إضافة لتوقف العمل في صناعة النفط على الاقتصاد، أوقفت وزارة المالية والبنك المركزي الفنزويلي تداول العملات الأجنبية في 23 يناير 2003 (كما حدث في سوريا في المرسوم 3 لعام 2020)، بعدها قامت الحكومة الفنزويلية بإنشاء مجلس مراقبة العملة، المكلف بالتعامل مع إجراءات الصرف الأجنبي، وحدد المجلس سعر صرف الدولار الأمريكي عند 1،596 بوليفار للدولار للمشتريات، و 1600 للدولار للمبيعات.
في سوريا حدد المصرف المركزي السعر بـ 1256 ليرة للدولار، ثم في مايو 2021 بسعر 2512 ليرة للدولار، بينما كان 50 ليرة عام 2011. وارتفع معدل التضخم المفرط في فنزويلا من 9،02٪ إلى 10 مليون٪ منذ عام 2018، وفقاً لصندوق النقد الدولي.
إن مراقبة سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار يصلح للاستئناس به، حيث يعكس حالة مخففة من معدلات التضخم الذي تجاوزت الخمسين بالمئة سنوياً منذ عام 2011، حتى وصل تقريباً إلى 6700 بالمئة ما بين عامي 2011 و2021، وهو رقم التضخم الجامح الذي وصلت إليه الكونغو الديمقراطية عام 1992 والذي استمر 12 شهراً، واقع الأمر أن استمرار تضخم بمعدل 50 بالمئة كل عام يعني أن سعر الليرة السورية عام 2025 سيصل إلى 14500 ليرة للدولار الواحد، وعندها سيصل التضخم ما بين 2011 و2025 إلى 29 ألف بالمئة!
إن أي خيار لنظام سياسي يجب أن ينطلق من تمثيله الديمقراطي الشعبي الحر الذي هو الضامن الحقيقي لاستقرار الدولة، وكذلك وبنفس الأهمية يجب أن تتوفر في أية حكومة وطنية وعي اقتصادي جيوسياسي لوزن الدولة في اللعبة الدولية الاقتصادية والسياسية، وإن التنطع بمحاربة قوى عالمية وبحِدّية بالغة قد تُدخل الدولة في مأزق اقتصادي تدميري يؤخّر نموها الاقتصادي لعقود، ويدمّر ويهجّر شعبها.
المطلوب من أية حكومة وطنية أن تحسب حساباتها السياسية والاقتصادية بحذر دون المغامرة بحياة الشعب، وهذا ما لا يتم في دولة ديكتاتورية، حيث تتم عملية اتخاذ القرار بشكل فردي وليس مؤسسي، بالتعاون مع ثلة من البطانة الفاسدة والتي لا تعبر عن رأي الشعب، بل تتمسك بمواقف تخدم القصر الرئاسي، على حساب دمار الشعب الذي يدفع ثمن رعونة الحكم الديكتاتوري الذي يتنطع بشعارات “مقاومة الامبريالية” وغيرها من الشعارات.
إن على الأنظمة الديكتاتورية الاعتراف بأن تدمير الدولة جاء بسبب خياراتهم الخاطئة لخدمة مصالح شخصية وشللية، وكذلك هي نتاج سوء تقدير لوزن الدولة، وأن الدولة بأجهزتها الحكومية ومستشاريها ووزارتها لم تُدرك قدرتها الحقيقية على الدخول في صراع غير محسوب العواقب، والذي ينتهي بتدمير اقتصادها الذي أحد عوارضه التضخم المفرط.