بعد حوارات صاخبة في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي بين أشخاص مختلفين في الرأي داخل صفوف المعارضة، كنت أحس بخيبة أمل مريرة وأشعر بذات الخوف من الأجهزة التي هي في كامل استعدادها دومًا لقمع أي رأي، باستثناء ما يحابيها من مسوخ الرأي على هيئة أشعار وصرخات ودبكات. كان الحوار حتى بين من يُفترض أن يكونوا في صف واحد يشبه معركة يتطاير شررها العقائدي بين المتحاورين، بخاصة بين من نمت أفكارهم على طحالب عقائد اليسار وأعمت عيونهم عن واقع يسوده طرفان؛ واحد يتسلط بقوته العارية، والثاني ينتهز الفرصة ليستل سيفه.
وكنت أستغرب كيف يبدو الجلاد وضحيته على نفس الشاكلة إن تعلق الأمر بالخطاب الأيديولوجي، كوجهين لعملة واحدة، فكلاهما يصرخ ويهدد، لكن للأول سطوته والقدرة على تنفيذ تهديداته، في حين يكتفي الثاني بأن يرغي ويزبد، لأنه لم يمتلك قوة القهر بعدُ، لكن التعاطف معه هو باب القيام بواجب التعاطف مع الضحية. القهر لا ينتج غير القهر، ويحتاج كسر هذه الحلقة والخروج من أسرها إلى وعي ثمنه المرور بمرحلة من الفوضى والخراب، قد تكون فادحة الثمن إلى أقصى حد، كما حصل للسوريين.
مع ذلك، كان كثيرون منا لا يرون في هذا الثبات القاتل لحركة الحياة ضيرًا، لا لأنه هو الحل المنشود، إنما لأن ما يخفيه من غموض يبدو مخيفًا، ككل غموض، والخوض فيه كالقفز من إلى هوة سحيقة. لذا، كان من الأفضل والأسلم التغني بالحتمية التاريخية بالنسبة للبعض أو انتظار الإرادة الإلهية لتقوم بعملها المؤجل بالنسبة للبعض الآخر. لكن الحياة لا تعرف الثبات كبديهة، وللتاريخ كلمته في تفجيره على رؤوس المتشبثين به، وهذا ما فعله بكل لؤم في نهاية المطاف، ليفيض التعفن المتراكم في البرك الآسنة.
التعفن السوري ليس تعبيرًا مجازيًا وحسب، وهو حقيقة تعفّن السمكة من رأسها ببطء وثبات على مر خمسة عقود بائسة. لا يعني الكثير أن السمكة ما تزال تلوح بذنبها أحيانًا، فهي علامة على الموت أكثر منها على الحياة، فالتعفن السوري ليس مجرد تعفن عادي، إنه الغرغرينا التي فتكت بالجسد رويدًا رويدًا، وكان احتضاره الحالي مسألة وقت لا غير.
وهو تلك الجرثومة العقيدية والعقائدية التي فتكت بالعقل قبل أن تنهك الجسد، ولم تترك جانبًا من جوانب الحياة العادية إلا ومسخته؛ إنها الكتابات والأقوال والصور والرايات التي صفعت الحواس وما تزال، والشعارات الجوفاء التي يرددها التلامذة في ساحات المدارس بموسيقاها النشاز، والكتابات التي كانت تلطخ الجدران قبل أن تخردقها الطلقات والقذائف والأحقاد، وتستبدل بما يعادلها من عفن التاريخ.
التعفن السوري هو المدارس التي لا ينقصها شيء لتكون سجونًا، بمناهجها الكاتمة لصوت العقل؛ وهو بيوت العبادة الخالية من كل روح، تهرب منها الآلهة لتلعب الكرة مع أطفال الأزقة البؤساء؛ وهو مراكز الثقافة الخاوية من أي فكر، تنتصب فيها نماذج لا تصلح إلا كشواهد لقبور الثقافة، ويصفعك فيها “مثقف” بفكرة تفتح للطلقة الطريق إلى رأسك مباشرة، وقد رضع الحليب الرديء من ثدي مستبد ويحسبه حليب أمه؛ وهو الفكرة – القنبلة ذاتها التي يواجهك بها محققٌ في سراديب الموت الكامن وراء كل باب.
التعفن السوري هو ذلك الفاسد الكبير الذي يوزع الفتات على الجائعين، والصغير الذي يلتهم جله ويكمن لنظرائه ليختلس من جيوبهم ما الْتقطوه منه، في تبادل للأدوار بين مفسد وفاسد، راشٍ ومرتشٍ، على الطريق المُفضية إلى الهلاك الروحي والأخلاقي وما بين بين؛ وهو ذلك الموالي الذي يعتز بردائه البالي، والمعارض الذي أخرج رداء على شاكلته من خزانة التاريخ ليلقيه على كتفيه ويمضي بلا هدى، فيلتقيان في قلب الكارثة.
ما هو الحل؟ من البديهي القول بأن الحل يكون من خلال عكس السياسات السابقة، التي كانت على هيئة إملاء وتسلط واستعباد، ومشاركة الجميع في القرار بشفافية من خلال الآليات الانتخابية التي تقود لاختيار الأصلح في نهاية المطاف، وهذا يعني أن كل دور مهما صغر يساهم في سيل التغيير، بمعنى الإصلاح التدريجي والمستمر بعد إزالة العقبة المتسلطة الكأداء. المشاركة الفاعلة في القرار هي البديل للذل والهوان الحاليين، وقد تحول منتجو الخيرات السوريين إلى مجرد متسولين.
يحصل مثل هذا التحول خلسةً وبثبات، ولن تطول نتائجه حتى تظهر بوضوح أكثر، بعد تبخر ما بقي من خوف صار جزءًا من وعي السوري ولا وعيه، السوري الذي خبر البدائل السريعة وغير المجدية، وكأنها مجرد هزات ارتدادية من الطبيعة ذاتها، ليبقى الخيار الوحيد الذي يجتمع جميع المستبدين على رفضه، طريق الحياة التي تتحقق عبرها كرامة الإنسان في دولة القانون والمواطنة والإدارات الرشيدة والنزيهة.
مسؤولية النهوض بسورية ليست مسؤولية السوريين وحدهم، على أهميتها، حيث ممارسة السياسة لا تجتمع مع الفساد ونظافة الكف والعقل أمران لا تهاون معهما، وتتحمل القسط الأكبر في قيامة سورية تلك الدول التي ساهمت بتدمير بلادنا، من خلال تدخلاتها وصراعاتها، والفاتورة المستحقة ليست أن ندفع لهم، بل ليدفعوا لنا ثمن كل هذا الموت والدمار، ثمن فشلهم في حل مشكلة قبل أن تتحول إلى كارثة، وترك المجرمون وشذاذ الآفاق يصولون ويجولون في أرض لم تعد تصلح للحياة.
منير شحود .