د . منير شحود – الناس نيوز ::
لا ينفصل التقديس عن تطور تاريخ البشر منذ أن خطا هذا الكائن الإشكالي تلك الخطوة الحرجة التي جعلته يعي وجوده في هذا العالم، العالم الذي صار أبعد من مجرد واقع ملموس يمكن التعامل معه بالغرائز البدائية وحسب.
تمثّلت بدايات التقديس بنوع من الخوف المشوب بالاحترام والتبجيل لظواهر الطبيعة التي لا يمكن التنبؤ بسلوكها، وكان على التقديس أن يملأ الفراغ الذي تسبب به القلق الوجودي للبشر وإدراكهم للأخطار المحيطة بهم من كل جانب.
كان وعي الوجود وظيفة مستحدثة للدماغ البشري، ونتاج طفرات متتالية لثلاثة ركائز تطورية متضافرة تمثلت بتحرير اليدين للعمل، وتطور تجويفي الفم والبلعوم للنطق بأصوات متعددة، كوسيلة سريعة للتواصل ونقل الخبرات، وتعقد بنية الدماغ من أجل دمج التجارب الناجحة وتخزينها وتحديثها. في هذه العملية المعقدة والمترابطة، طوّر الدماغ البشري وظائفه من إدارة الغرائز إلى تكوين عوالم إدراكية – معرفية بدت وكأنها لم تعد مرتبطة بأساسها المادي، كبنية بيولوجية.
إن الوجود، بمتاهاته وعوالمه الغامضة، قاسٍ حين يُدرك، وإدراكه مرتبط بالخوف منه، فلم تعد غريزة البقاء البدائية للهروب من الخطر كافية، ولا بد من التعايش مع حالة الخوف الجديدة، من خلال منح عناصر الطبيعة القريبة وذات الخطر المباشر بعض القرابين، كضرب من مقايضة الأمن بالتقرب والتضرع والتوسل، بهدف حماية الذات الفردية والجماعية ما أمكن.
وتمثلت الخطوة التالية بتجريد إله لتمثيل كلٍّ من عناصر الطبيعة وظواهرها، بهدف تسهيل عملية التواصل معها من خلال هذا الوسيط الجديد. لاحقاً، تم توحيد الآلهة جميعها، للهدف نفسه، في إله واحد كلي القدرة يجري التعامل معه عن طريق طقوس وقرابين محددة وموحدة، إله لا يجوز الشرك به، وكلما صعُب إدراك صفاته أو تحديدها كلما تكثف احترامه وتبجيله، وصولاً إلى الدرجة القصوى من التقديس والتنزيه.
مثل هذا الارتقاء نجده في منطقتنا من خلال تطور الديانات الإبراهيمية، وآخرها الإسلام. ففكرة أن لا يخضع الشخص إلا لإله واحد ولا يخاف غيره (ما بخاف غير من الرب اللي خلقني) هي خطوة نوعية على سلم الحرية الإنسانية، خطوة يُفترض أن تنقل المجتمعات إلى حالة روحية أرقى وتقلل من ممكنات النزاع ومصادر الاختلاف. لكن للركود التاريخي والمصاعب الناشئة عن تضارب المصالح الأرضية قول آخر في نهاية المطاف، ما قد يعيد التقديس إلى مستوياته السابقة التي كان التطور الديني قد تخطاها.
كما يمكن الربط بين انتشار مظاهر التقديس السابقة وتنوعها وبين استمرار العجز عن التحكم بقوى الطبيعة، حين تكون القوى المنتجة ضعيفة التطور، أو بسبب إنتاج البشر لقوى قاهرة لم يعد بمقدورهم السيطرة عليها، كالسلطات المطلقة أو مختلف أشكال الطواطم والأصنام المعبودة، والتي قد تكون مجرد حلقات وسيطة من أجل الوصول إلى الاله الواحد كلي القدرة في الحالة الأولى، أو يتم الاكتفاء بها في الحالة الثانية عندما تحقق لمعتنقيها التوازن النفسي والتسكين الروحي.
وفي الدفاع عن القداسة والمقدسات يحضر العنف، سواء في حالة إسباغ القداسة على الإله الواحد أو حين تتوزع على عناصر ومستويات وسيطة كثيرة. وكلما لجأ حماة القداسة إلى الغلو والتطرف، كلما حدثت ردات فعل معاكسة قد تطيح بفكرة القداسة ذاتها، فلا تعود لها تلك المصداقية المرجوة ويسهل امتهانها وتدنيسها.
ولا يعبر الغلو في الدفاع عن المقدسات عن حالة سوية، وهو يسم حال الجماعات التي افتقدت الأمان لأسباب تاريخية، ودفعها الخوف للاستنجاد روحياً بما ومن يقع “على مرمى النظر”، مقلصة من الحرية التي يفترض أن يمنحها إله حامي “بعيد”.
إن التقديس المبالغ فيه والشعور بالحاجة للدفاع عن المقدسات دليل على عدم احترام وإدراك لتاريخ تطورها، وهو تعبير عن حالة العجز تجاه القوى ذات المنشأ الأرضي والقهر المرتبط بها. وقد يصل هذا العجز إلى درجة من التأنيب الذاتي تجعل المظلمون يعتقدون بأن ما يحدث لهم هو “من صنع أيديهم”، وهو ما يحاول سدنة الأديان أن يكرسوه لصالح أسيادهم وأولياء نعمتهم.
ولا يتوقف تقهقر عملية التقديس عند سلسلة الأسلاف والرموز فقط، وينسحب على الأشخاص الأحياء أيضاً، كالأم، لكن ذلك يتطلب شروطاً محددة تتمثل في ضرورة أن تكون الأم قد تخلصت من أنوثتها بيولوجياً كامرأة، وتحولت إلى رمز مجرد للعطاء والحنان، وللسلطة أيضاً، فيمنحها المجتمع الأبوي جزءاً من سلطته لتستخدمها تحت رقابته، وعلى حساب تجريدها من أنوثتها الحقيقية وحياتها الطبيعية، وربما تكفيراً عن مظالم كثيرة سابقة، كالحرمان من الإرث على سبيل المثال، فتتحول الأم إلى أيقونة ميتة ولا تعيش حياتها المستقلة والطبيعية.
ويكشف التقديس المبالغ فيه وما قد يرتبط به من عنف، أيضاً، عن حاجة الأفراد والجماعات إلى صيغة تعايش وتنظيم أرضية توفر لهم نوعاً من الاستقرار الوجودي والنفسي، فتعيد للمقدسات قيمتها الرمزية وتخفف من الاعتماد عليها كملجأ من حالة عدم الاستقرار المرتبطة بشتى أنواع المخاوف والمظالم.
ليست هذه الصيغة سوى الدولة، وهي غير مثالية بالتأكيد، لكنها الضرورة القائمة على عقد متًّفق عليه بين الشعب وحكامه المفوضين، العقد الذي يمكن نقضه وتجديده حين يخلُّ أحد الطرفين بالتزامه به. إنها دولة القانون التي يخضع لها الأفراد طوعياً، ويجبرونها، من خلال وسائل مراقبة اجتماعية مستقلة، كالآليات الدستورية ووسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني، على أن تكون أقل إكراهاً وقهراً.