ميديا – الناس نيوز ::
حسام عيتاني – المجلة – المجتمع وسِمات العصر هما طرفا المعادلة المتناقضان اللذان يحرك احتكاكهما الدائم تلك العملية المسماة “التقدم” او الاستجابة التدريجية التي يبديها المجتمع ونظامه السياسي والقيمي، بالتالي، الى ضرورات العصر ومعطياته وضروراته.
ثمة تسميات عدة ظهرت في ظروف مختلفة للعملية المذكورة: الإصلاح – الثورة (البيضاء والسلمية او الحمراء والدموية) – التغيير ألخ…. او “التحدي والاستجابة” بكلمات المؤرخ أرنولد توينبي وربما “القبض والبسط” كما رآه الباحث الايراني عبد الكريم سروش الذي ربما يكون قد استقاه من مفهوم يحمل الاسم ذاته نحته المتصوفة في بحثهم عن اليقين.
مهما يكن من أمر، كان الانهيار والفوضى مصيري كل مجتمع لم يدرك ضرورة التكيف والتطور والاستجابة. اختفاء حضارات وظهور أو عدم ظهور بدائل لها، من المواضيع التي شغلت طويلا بال علماء الانثربولوجيا والمجتمع والتاريخ. وغالبا ما ترجع أسباب اضمحلال الحضارات التي تبلغ في مراحل معينة قدرات عسكرية واقتصادية هائلة واتساعا جغرافيا ضخما، الى الفشل في ادراك الحكام والنخب والمجتمعات، معاني الاشارات التي يطرحها العصر.
تغيّر الطرق التجارية والافتقار الى الموارد المعدنية في زمن الصناعة (الامبراطورية العثمانية مثلا لا حصرا)، سيطرة أساليب جديدة جذريا في الانتاج الزراعي او الصناعي والتوزيع التجاري، جفاف طويل الأمد أو تبديل نهر قامت على ضفتيه حضارة زراعية، لمجراه، كانت دائما وستبقى من الدوافع الى تغيير انظمة الحكم. سلما او حربا، من الداخل او الخارج. برضا وتسليم الجماعات المهيمنة على السلطة أو رغما عنها.
بل أن بعض الاديولوجيات سعت الى “عقلنة” مبدأ التغير والتكيف وربطه بحتميات وبإنجاز المجتمعات لمهمات معينة ما يستدعي انتقالها الى مراحل أرقى من التطور الاجتماعي. وظهرت في القرنين التاسع عشر والعشرين تعريفات لأسباب اضمحلال حضارات وازدهار اخرى لعل اشهرها فلسفة هيغل للتاريخ وتطويره مفهوم “روح العصر”. لكن هذا حديث آخر.
في حاضرنا وجوارنا، لدينا ثلاثة نماذج لتحديات كبرى تعيشها مجتمعات تتبنى أنظمتها السياسية مقاربات مختلفة في مواجهتها. هناك النموذج الايراني، أولا. على امتداد أكثر من أربعين عاما من الحكم “الثوري”، تغير المعطى الاجتماعي وظهرت أجيال جديدة فيما انتقل العالم بأسره بعد سقوط الاتحاد السوفياتي من حال الى حال واختفت أساليب في التفكير وبرزت اخرى. الثورة التي رأى ميشال فوكو فيها نموذجا لتغيير عالمي يصدر من خارج المركزية الغربية، وصلت سريعا الى حائطها المسدود.
ذلك أن الاجيال الشابة في المدن خصوصا والتي تشكل اكثرية بين افراد الطبقة الوسطى، لم تعد مقتنعة بما يعدها النظام به. بل لا ترى ان الوضع الحالي يضمن فرصا ملائمة لبناء مستقبل مستقر. اجواء الاستنفار العسكري الدائم بحجة الدفاع عن الثورة وانجازاتها تطرح في المقابل سؤالا عن حقيقة الانجازات تلك ومدى توفير “الاستقلال عن قوى الاستكبار العالمي” ما يلبي حاجات المواطنين.
الهبّات التي يشهدها الشارع الايراني منذ سنوات والتي كان آخرها تلك التي اعقبت مقتل الشابة مهسا أميني في سبتمبر/ أيلول الماضي، تشير بالضبط الى الفارق بين رغبة المجتمع بالتطور والتقدم وبين تمسك النظام بأساليبه التي تعكس مصالح فئات اجتماعية ما فتئت تتقلص مقارنة بازدياد اعداد الشبان الطامحين الى نمط آخر من الحياة ومن التعبير عن الذات. وعلى الرغم من الهدنة الحالية بين المجتمع والنظام، الا ان الاستجابة لضرورات المجتمع لم تتحقق بعد.
النموذج الثاني يتحرك في تركيا. وعلى الرغم من وجود حياة سياسية وانتخابات دورية، الا ان ما يجري يعلن، بحسب تقريري “فريدوم هاوس” و”هيومان رايتس ووتش” الاخيرين على الاقل، أن الامور تسير نحو المزيد من التقييد على الحريات والحقوق الفردية والعامة.
الانتخابات المقبلة المقررة في يونيو/ حزيران ستكون أشبه بالاستفتاء على نظام الحكم وعلى دور الرئيس ومستقبل الحزب الحاكم. غني عن البيان ان مسائل عميقة تتناول العلاقات الداخلية بما فيها حقوق الأكراد السياسية والثقافية، لم تشهد تقدما يذكر منذ اعوام طويلة لاسباب تتعلق في المقام الاول بوقوع القضية الكردية محل تنافس بين القوى السياسية التركية الكبيرة وإمكان حل المسألة الكردية من خلال تجاهلها وقمع حامليها.
النموذج الثالث ليس غير لبنان. وخلافا للاعتقاد القائل ان البلد الصغير هذا يشكل عصارة الالتزام بروح العصر في المشرق العربي، الا ان الواقع يشير إلى ان النظام السياسي يخسر سنة بعد سنة كل قدرة على التكيف مع الضرورات التي يمليها العالم.
وما الانهيار الكبير المستمر منذ 2019 سوى تعبير عن تكلس البنى السياسية والاقتصادية وفقدانها للقدرة على ايجاد وظيفة في الاقتصاد العالمي باستثناء اللعب على هوامش تبييض الاموال والمضاربات العقارية والريعية.
افضى الواقع هذا الى جمود الدينامية السياسية والاجتماعية حيث باتت الهجرة هي الخيار الوحيد امام الشباب بل كشكل شبه حصري لتوفير العملة الصعبة اللازمة لتشغيل اقتصاد مرتبط منذ عقود طويلة بالخارج. وفاقم الامر وقوع البلاد في شبكة استخدام وظيفي لاستغلاله في مشاريع خارجية سال في وصفها حبر كثير. الفوضى والانهيار هما المصير المنتظر للبنان في المستقبل المنظور.
أخيرا، هذه عينات من الحاضر الذي لا يصح اختزاله بمسار واحد مهما بدا طاغيا. وتبقى صعبة ومكلفة تلك المفاضلة بين الاستجابة لضرورات العصر والزمن او الاستسلام لجمود سيتحطم لا محالة.