حليم الصالح – الناس نيوز ::
لم تختلف حالة العلويين نوعياً عن حالة سكان الأرياف السورية في بقية المناطق التي سيطر عليها العثمانيون، إلا باعتبارهم في الأدبيات والرسائل السلطانية كمجموعة من الهراطقة، وبالتالي لا تنطبق عليهم مقاييس الدين الإسلامي “الصحيح”، فتم استخدام ذلك كسلاح إضافي عند الحاجة لاتخاذ إجراءات تأديبية بالغ في تنفيذها الولاة المحليون.
كما حفل تاريخ العلويين بالصراعات العشائرية البينية، وتلك التي اندلعت بينهم وبين المجموعات العرقية أو المذهبية الأخرى للاستحواذ على الأراضي الجبلية المحدودة المساحة، جغرافياً وزراعياً، كالإسماعيليين والأكراد.
في بداية القرن التاسع عشر، تموضعت السلطنة العثمانية بين قوتين متفاوتتين في القوة ولكنهما أكثر حضارية، أوروبا من جهة ومصر محمد علي باشا من جهة أخرى، وكان لا بد لها أن تتأثر بالإصلاحات التي اعتمدها إبراهيم باشا إبان حملته على سوريا (1831 – 1840) ولو كارهة، والتي انعكست على العلويين أيضاً، فتم الاهتمام بالتعليم وإقامة المدارس من أجل منافسة دعوات التبشير المسيحية التي انتشرت في الجبال من جهة، ومحاولة التطبيق الصارم لنظام التجنيد من جهة أخرى، باعتبار أن العلويين صاروا بمثابة مواطنين كاملي الحقوق في “الدولة العلية”، بعد إلغاء نظام الملِل العثماني عام 1856، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، ويخضعون لإجراءات التقاضي المستندة إلى فقه المذهب السني الحنفي ذاته في ما يتعلق بالإرث والأحوال المدنية، الأمر الذي ما يزال قائماً حتى تاريخه.
في هذا الصدد، لعبت السياسات “الحكيمة” لوالي دمشق مدحت باشا، الذي يلقب بأبي الدستور العثماني (1876)، دوراً مهماً في تلطيف الأجواء بين العثمانيين والعلويين، فبعد أن تم الغدر بإسماعيل خير بك من قبل قريب له وتسليم رأسه ورؤوس بعض أفراد عائلته للسلطات في دمشق (1858)، تابع ابنه البكر هواش، الناجي من المذبحة، مسيرته، ولعب الأمير عبد القادر الجزائري، الذي كان قد استقر كمنفي في دمشق منذ خمسينيات القرن التاسع عشر، دور الوسيط .
ويبدو أن هؤلاء الثلاثة (عبد القادر الجزائري ومدحت باشا وهواش) كانوا يعملون معاً على استقلال سوريا عن السلطنة العثمانية، بحيث يكون للعلويين (جبل النصيرة) دور مفصلي في ذلك.
وكان السلطان عبد الحميد الثاني، بعد انقلابه على الدستور بأقل من سنة، قد عيّن مدحت باشا حاكماً/ والياً على سوريا (1878). في أثناء ذلك، اجتمع مدحت باشا بحوالي 500 من الشخصيات العلوية في حماة، ووعدهم بمزيد من الاستقلال.
لكن الوقت لم يطُل حتى تم إجهاض جهود مدحت باشا، ثم الإطاحة به عام 1882 ونفيه إلى الطائف، حيث قضى في ظروف غامضة (1884)، فيما تم نفي هواش إسماعيل خير بك إلى مدينة عكا ومنها إلى جزيرة رودوس اليونانية (1890)، وما يزال قبره هناك.
وكان من نتائج الإصلاحات العثمانية (1839 – 1876) ظهور نخب علوية دينية وثقافية جديدة من خريجي المدارس العثمانية منذ نهاية القرن التاسع عشر، والذين رفعوا مطالب العلويين السياسية ودافعوا عنها (محمد غالب الطويل، عبد الرحمن الخير، حسين ميهوب حرفوش، عبد اللطيف اليونس، أحمد علي حسن، حامد حسن، إبراهيم عبد اللطيف مرهج، سليمان الأحمد… وغيرهم)، وقد أخذ معظمهم بإسلامية العلويين، أو مزجوا بين الظاهر والباطن، الباطن الصوفي وليس الطريقة الخصيبية (نسبة إلى الداعية حمدان الخصيبي، مؤسس ومُستبطن المذهب العلوي)، فحاولوا بذلك إعادة وصل ما انقطع في تاريخ العلويين منذ العهد المملوكي.
مقابل ذلك، بقيت غالبية رجال الدين التقليديين، الذين ترتبط مصالحهم بجهل العامة وتجهيلهم، ضد أي محاولة للتنوير، وتمسكوا بمنهج الطريقة الخصيبية الباطنية التي شابتها بدع كثيرة من جراء العزلة شبه التامة عن العالم الخارجي، فتحولت إلى نوعٍ من الأخويات الذكورية العقيمة والضيقة.
لكن محاولات العثمانيين لنشر التعليم وبناء المدارس تعثرت كثيراً ولم تصل إلى مستوى الطموحات، بسبب مشاكل السلطنة الداخلية وعمق الجهل ونظرة العثمانيين الفوقية إلى العلويين كبرابرة يجب تمدينهم وتسنينهم، وما أعقب ذلك من ردّات فعل، ولو أن العثمانيين لم ينكروا الظلم الذي أحاق بالعلويين، حتى من قِبلهم، وقد عبّر مدحت باشا عن ذلك بوضوح في أكثر من مناسبة.
بيد أن الحمل كان ثقيلاً من جراء قرون من العزلة التي حدث فيها المزيد من الإفقار المادي والروحي، وشمل ذلك المصادر الإسلامية والصوفية والعرفانية لثقافة العلويين الدينية، وميل غالبية المشايخ إلى تفضيل مصالحهم، بما في ذلك تحويل أموال الزكاة إلى جيوبهم.
وكانت العزلة التي فرضها العلويون على أنفسهم أو فُرضت عليهم، قد قلصت سبل التواصل مع العالم الخارجي، لتقتصر على الحملات التي كان يشنها الإنكشاريون وغيرهم على القرى الجبلية في حالة الامتناع عن دفع الضرائب ورفض التجنيد، وما يرتبط بها من ردّات الفعل، كقطع الطرق والسلب والعصيان، ما عزز المواقف النمطية المسبقة عن العلويين كأشرار وهراطقة وغير ذلك من النعوت، وإغفال الأسباب الحقيقية لتصرفاتهم هذه.
هنا لا بد من الإشارة إلى التمايز بين منطقة وأخرى من حيث مستوى الاحتكاك بالمحيط، فقد كان علويو السهول دوماً، كالسهل الساحلي وسهل الغاب، أكثر ليونةً وتمدناً من سكان المناطق الجبلية القصية، والتي لم تُحكم مباشرة من قبل السلطات العثمانية أو الإقطاع.
من جهة ثانية، لم تستطع ألف سنة من حياة العلويين أن تحسم مسألة انتمائهم إلى المدرستين الإسلاميتين الرئيستين، السنية والشيعية، فقد قاوموا محاولات احتوائهم مذهبياً، سواء عن طريق تسنينهم، كما حدث في العهدين المملوكي والعثماني، أو تشييعهم، كما حدث بعد الثورة الإيرانية (1979).
كما أن الحديث عن العلويين، كمذهب ديني وتقية، يتجاهل طبيعة تفكير غالبية أبنائهم، الأقرب إلى التفكير العلماني، بعيداً عن قيود الطريقة الباطنية المتكلسة، فضلاً عن ضعف مرجعياتهم الدينية وتعددها، أو حتى عدم وجودها أحياناً.
هنا تجدر الإشارة إلى أن الانتقال من المذهب السني إلى الشيعي أو العكس يعدُّ أسهل بكثير من الانتقال من الطريقة العلوية إلى أحد المذهبين المذكورين، نظراً إلى القرب العقائدي والكثير من مشتركات العبادة بين السنة والشيعة، في حين تحول تعددية مصادر ثقافة العلويين الدينية دون حصول مثل هذا التقارب، إذ يبدون في هذه الحالة وكأنهم يتخلون عن “سرهم”.
ومن ناحية تعدد المرجعيات الدينية يشبه العلويون السنة، لكن من دون الحالة الدعوية، وهذا ما يجعل من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، تشكيل مجموعات تكفيرية في صفوفهم، ويبقى خلافهم الأساس مع السنة محصوراً بالتكفير الذي تمارسه الجماعات المتطرفة الجهادية، ما خلا ذلك، فإن الحياة الاجتماعية كانت وستبقى ممكنة بين الطرفين .
يفسر ما سبق أيضاً النجاح المحدود لمحاولات تشييع العلويين بعد الثورة الإيرانية، حتى بالمقارنة مع مناطق سنية سورية أخرى، كالمنطقة الشرقية . فالشيعة أكثر تماسكاً من ناحية المرجعية، وموقفهم أكثر صرامة من العلويين، كغلاة .
لقد بقيت الجوامع التي موّل الإيرانيون بناءها في المناطق العلوية شبه خاوية، كما هي دوماً تقريباً، مع فشل “سدنتها” في مهامهم التشييعية، والذين خضعوا لدورات دينية شيعية الطابع في منطقة السيدة زينب بهذا الخصوص، ليعودوا ويتعلْونوا من جديد، من أجل أن تتقبَّلهم المجتمعات المحلية بدرجة ما .
يتبع…….