أحمد عزيز الحسين – الناس نيوز :
لا يمكن للأديب أن يكون مؤرِّخاً؛ لأنّ المادّة الوثائقيّة التي يستمدّها من الواقع، أو من التّاريخ، تتحوّل إلى مادّة فنيّة متخيَّلة عبر مرورها في مصفاة الذّات المبدِعة، بحيث يُعاد إنتاجُها من خلال رؤية الكاتب الجماليّة، وموقعه السّرديّ، ويُضَافُ إليها من الوقائع والتّفصيلات ما يُغيِّرُ من دلالتها التّاريخيّة، ويُحوِّلها إلى مادّة جديدة يُؤوَّلُ من خلالها التّاريخُ، ويُفسَّر تفسيراً ذاتيّاً، فضلا عن أنّ الأديب يتأثّر عند إعادة صياغته للمادّة نفسها بالسِّياق الذي يحتضنه، وبالوعي الذي يحتكم إليه، وبالشّريحة التي ينتسب إليها، وهو ما يمكن أن يلعب دوراً في إعادة كتابته للمادّة التّاريخيّة، وفي إعادة تأويله للوثيقة التّاريخيّة نفسها، وفي إنتاج نصّ أدبيّ جديد لا يمكن وصفه بالتّاريخيّ على الإطلاق؛ لأنّ المادّة التّاريخيّة فيه لاتبقى تاريخيّةً كما كانت، ولا يُحافَظُ على (وثائقيّتها)، بل يُعادُ إنتاجُها في النّصّ الذي تتعالق معه؛ فتفقد علاقتها بالسِّياق الذي كان يحتضنها، وتُمنَحُ دلالةً جديدةً لم تكن تحملُها من قبل؛ وتغادرُ حقلَ التّاريخِ الذي كانت تنتسب إليه، وتدخلُ حيّزَ المُتخيَّل، ويُحتَكَمُ في تاويلها إلى القارئ، وتخضع عند ذلك لرؤيته، ومدى ثراء قراءته وعمقها، ولما كان القرّاءُ مختلفي المشارب والاتّجاهات الفكريّة والفنيّة؛ لذلك يمكن أن تؤوَّل تأويلاتٍ لاحصر لها رغم أنّها مادّة وثائقيّة؛ ولذلك لايجوز أن نحتكمَ في قراءتها إلى مدى صدقيّتها في التّعامل مع المادّة التّاريخيّة؛ لأنّها (المادّة التّاريخيّة) نفسها، وقد أضيفتْ إليها رؤيةُ الكاتب للماضي، مع ربطه بالحاضر، وإيجادِ صلةٍ جماليّةٍ بينهما؛ ولعلّنا لهذا لايمكن أن نصف لوحة ( الجورنيكا) لبيكاسو (1881-1963) بأنّها لوحة تاريخيّة، مع أنّ مادّتها مُستمَدّة من التّاريخ، لأنّها أعادت تشكيل هذه المادّة من منظور ذاتيّ، ومنحتها رؤية جديدة لم تكن لها من قبل.
ويسري هذا على مافعله ممدوع عدوان في مسلسل (الزّير سالم) إذ جعل من الزّير سالم، الذي هو شخصيّةٌ تاريخيّةٌ، (شخصيةً فنيّةً)؛ وحمّلها فهمه للتّاريخ وتأويله له، وكان لابد، كي تُستَكمل عمليّةُ الخلق الإبداعيّ في المسلسل، من أن يبني السّياق الذي يتناسب مع فهمه الجديــد لهذه الشّخصيّة، ويعبّئ هذا السِّياق بالوقائع والمادّة الفنيّة المُتخيَّلة اللازمة لبناء هذه العمليّة، ولذلك غدا البناء الفنيّ في المسلسل كلّه متخيَّلا، ومن صنع عدوان نفسه، وإنْ كان قد استعان في بنائه وإعادة تشكيله بشخصيّات حقيقيّة عاشت في التّاريخ، ولكنّ هذه الشّخصيّات التي أعيد تشكيلها في المسلسل أمستْ شخصيّات جديدة، وحملت دلالة جديدة صنعها عدوان نفسه، ولهذا فإنّ وجودها في المسلسل لم يعد له الدّلالةُ نفسها التي كانت تحملها في سياقها التّاريخيّ الحقيقيّ، لقد أمستْ هذه الشّخصيّات (مُتخَيَّلةً) وغادرتْ عالمها الموضوعيّ، وانضمّتْ مع عناصر أخرى إلى البنية الفنيّة التي صنعها عدوان نفسه، ومن الطّبيعيّ لهذا أن تفقد دلالتها التّاريخيّة السّابقة، وتكتسب الدّلالة الجديدة التي حمّلها إيّاها عدوان، وإلّا فإنّ عمله يغدو اجتراراً للماضي، لأنّه يكرر في بنائه للشّخصيّة، وفي فهمه لها، ما كانت تحمله سابقاً؛ ولهذا فإنّ تحطيم عدوان للشّخصية التّاريخيّة في المسلسل يُمسي أيضًا أمراً طبيعيّاً يتناسب مع عمليّة الخلق الفنيّ التي قام بها.
لقد انتقلت بعضُ الشّخصيّات التّاريخيّة في المسلسل من (الحيّز التّاريخيّ) الذي كانت تعيش فيه، ودخلت (الحيّز المُتخيَّل) الذي بناه عدوان، وحملت بعد دخولها رؤيته الجديدة، وأمست رموزاً فنيّة وأقنعةً مُخاتِلة لا أكثر، وأفلحت في أن تجعل عدوان ينفكّ من إسار التّاريخ، ويتحرّر من قبضته، ولا يعيد أحداثه كما هو، بل يستعيدها مُخضِعاً إيّاها لرؤيته، فتغدو علاقته بالتّاريخ علاقة محاور له، وناقد إيّاه، ومفكّك لأحداثه، لا مستجرّ لأحداثه، وهي علاقة تقرأ الماضي قراءة نقديّة، ولا تجعل من الحاضر امتداداً سكونيّاً للماضي، أو تكراراً ميكانيكيّاً له هذا إذا أفدنا من قراءة خلدون الشّمعة للعلاقة بين الأدب والتّاريخ في كتابه ( النّقد والحريّة) .
أمّا زكريا تامر فيكثر من استحضار الرّموز التّاريخيّة النّضاليّة في كثيرمن قصصه، ومنها قصّة (الجريمة) في مجموعته الشّهيرة (النّمور في اليوم العاشر)، التي تُعدّ نموذجاً للقصّة التّامريّة التي تنهض على استحضار الرّموز التّاريخيّة، وتحريكها في الفضاء العصريّ للدّولة التّسلطيّة بغية تجريدها من قيمتها الإيجابيّة، وإقامة نوع من المقابلة بين الماضي الآفل والحاضر الرّاهن. و تنزاح الشّخصيّة التّاريخيّة في القصّة عن دلالتها المرجعيّة، وتكتسب دلالةً مغايرة في سياقها السّرديّ الجديد.
تظهر في هذه القصّة شخصيّة الشّرطيّ (أو رجل الأمن) أوّل مرّة في القصّة السّوريّة بوصفها رمزاً للسّلطة الّتي تهيمن على النّاس وتعامِلهم بصفتهم قطيعاً. وليس لهذه الشّخصيّة في متنه الحكائيّ اسمٌ، ولا هُويّة، ولا حياة داخليّة، ولا إرادة، ولا منطوق لغويّ يُميّزها من غيرها، ويبدو خضوعُها لقوّة مفارقة للكون أمراً مفروغاً منه ومُسلَّماً به، كما تبدو أحكامُها أوامرَ لا قدرة لأحدٍ على عصيانها أو مقاومتها، ويصل الحال بها إلى حدّ تزوير التّاريخ الوطنيّ، وإعادة قراءته من منظور سلطويّ .
إنّ حادثة قتل (سليمان الحلبيّ / البطل الشعبيّ السّوريّ المعروف) للجنرال الفرنسيّ كليبر تُقدَّم لنا في القصّة بروايات ورؤى سرديّة ثلاث، تختلف كلّ منها عن الأخرى اختلافاً بيّناً في التّفاصيل، ولكنّها تتّفق على أنّ (الحلبيّ) مجرمٌ يستحقّ الشّنق.
والملحوظ أنّ الشّخصيّات الثّلاث تروي الحادثة بآليّة خالية من التّعاطف مع سليمان الحلبيّ مع أنّها في القصّة ترتبط معه بصلة الدّم؛ فيكشف هذا عن المفارقة بين ما كانتْه وما آلَتْ إليه، وحين يردّ سليمان الحلبيّ على رجال الشّرطة بأنّه بريء؛ يجيبه أحدهم بصوتٍ بارد وقاسٍ:”لماذا ولدْتَ ما دمْتَ بريئاً ؟ جئْتَ إلى هذا العالم كي تهلك، وستهلك دون احتجاج“، ثم يحكم عليه بالإعدام، وينفّذ رجالُه الحكمَ بوحشيّة، ثم ينصرفون بلامبالاة كأنّهم لم يفعلوا شيئاً.
إنّ زكريا تامر يُعيد في قصّته إنتاج (سليمان حلبيّ عصريّ)، ويُموضِعُه ضمن النّسق المعهود لهيكليّة الدّولة الاستبداديّة؛ فيكتسب السّردُ اللاّحقُ عنده وظيفة بنائيّة جديدة؛ إذ يتخلّى هذا السّرد عن حكاية الحلبيّ كما حدثت، ويُعيد صياغتها لتكتسب دلالة مغايرة لدلالتها التّاريخيّة المعروفة؛ فتغدو هذه الشّخصيّة رمزاً ليس لها من التّاريخ إلا الاسم؛ ولعلّ هذا هو الذي جعل القصّة تصلح لأن تنحو منحًى رمزيّاً في مستواها الدّلاليّ، مع أنّ متنها الحكائيّ أقام نوعاً من التّناصّ مع وقائع تاريخيّة معروفة في سيرة سليمان الحلبيّ، وبدا للمتلِّقّي كأنّ الكاتب حريص على الالتزام بسرد نُتف من هذه الوقائع بموضوعيّة.
وبشكل عامّ تتمحور مجموعة (النّمور في اليوم العاشر) حول موضوع القمع، وتمجِّد القيم الإيجابيّة للرّموز التّاريخيّة التي تستحضرها (طارق بن زياد مثالا)، وترى أنّ البطولات التي اجترحتْها هذه الرّموزُ بقيتْ في طيّ التّاريخ، ولم يتمّ موضعتُها أو الانتفاع من دلالتها في حياتنا المعاصرة، بل تذهب أبعد من ذلك حين ترى أنّ هذه الرّموز جُرِّدت بفعل جهلنا وتخلّفنا من إيجابيّاتها وإيحاءاتها، وغدت رموزاً استهلاكيّة مُتناسِجة مع حضورنا المُتسفِّل في الحاضر بعد أن كانت دليلا ساطعاً على وجودنا المتميّز، وحضورنا الفاعل والمؤثّر في مسار التّاريخ:
“- مذيعة تلفزيونيّة:”
هل تسمح يا أستاذ خالد بن الوليد بأن تنشر للأخوة المشاهدين كيف تصير بطلاً شهيراً ؟
– خالد بن الوليد:” لقد صرْتُ بطلاً شهيراً بفضل ملح أندراوس الفوّار، ففي كلّ صباح كنتُ أشرب كوبَ ماءٍ بعد أن أذيب فيه ملعقتين من ملح أندراوس. فملح أندراوس كما يعلم القاصي والدّاني ينشّط الكبد، ويُنظّف الأمعاء، ويقوِّي الجسم، ويُنعِش العقل” (النّمور في اليوم العاشر ط دار الآداب، ص41).
* ناقد سوريّ