[jnews_post_author ]
في رحلة الصيغ التعبيرية، تعد الصورة الإلكترونية، الطور الأخير في صيرورةٍ مبدؤها السرد الشفوي، فالتدوين فالكتابة، ولكل طورٍ خصائصه المميزة والمحددة، التي لا تزول بزوال هذا الطور أو تحوله، لكنها تتفاعل مع لاحقته، تاركةً المكان الأهم للنمط التالي، ليكون النمط السائد والأكثر شعبية.
ولقد حولت الصورة الإلكترونية، الكثير من الاهتمامات والموضوعات، التي كانت حكراً على النخبة، الى معارف ومتداولات شعبية مشاعة، وهذا بحد ذاته يخلق إشكاليةً على مستوى التمثل المعرفي، وعلى الصعيد المعرفي السياسي والاجتماعي.
فقد وسعت الفضائيات والمواقع الالكترونية وثقافتها، مساحة الاستقبال المجاني والمبسط، والمتاح لشريحةٍ غاية في الاتساع، مما نجم عنه تعددٌ وتنوعٌ كبير، في تأويل المحكي والمرئي، وسلب النخبة استئثارها القديم بكهنوت المعرفة.
وهذا التحول النوعي، استتبع جملةً من التحولات التابعة واللصيقة به، فانزاح الاهتمام والتركيز على رمز ثقافي بعينه، ليحل محله نجمٌ سريع الظهور، تصنعه وسائل الاعلام.
ويتسم هذا التحول بـإلغاء السياق الذهني للحدث، وبطغيان التقانة الملونة والايقاع اللحظي السريع، مما ينتج ذاكرةً مضمحلةً لا تنثني عن اللهاث، خلف ما تنتجه المواقع كلّ ساعة.
وتتماهى الحدود بين الثقافي والتفاهي، في هذا المنتج الإعلامي السهل، حيث يعبر الثقافي عن النخبة، بينما يشكل التفاهي بمساحته الأوسع ثقافة الشعبي والعام.
في ساعةٍ معينةٍ من عام “2013” كان عدد متابعي برنامج عرب آيدول، في حلقة الفلسطيني “محمد عساف” يتجاوز مئة وعشرين مليون متابع عربي، بينما لا يحظى أي برنامجٍ ثقافيٍّ أو حواريٍّ عربي، بعشر هذا العدد. وقد عبر الشاعر “ممدوح عدوان” عن هذا بقوله: (لقد غُيِّب صوت المثقف والثقافة الحقيقية، وكُرِّس صوت التفاهة، نحن نعيش حالة حصار التفاهة).
ورغم مرارة المشهد، ينبغي أن نعترف ومن منظور آخر، أنّنا لا نواجه انهيارا في الشكل الثقافي وحسب، بل أمام ظهور نسقٍ جديدٍ من الثقافة الجماهيرية، المغايرة للنمط الذي كان سائداً، والذي بقينا آماداً نزعم، أنَّه النمط المعبر عن ثقافة وضمير الشارع، حيث تبين ان للجماهير والشارع صوتاً آخر، وهو ما نسمعه عبر الفضائيات وصفحات الإنترنت.
رغم أنّه صوتٌ يتسم بغالبه بالضحالة الثقافية، والسطحية الطاغية.
كل ذلك مرده للتهميش الطويل، الذي عانته النخب المثقفة، من خلال عزلها عن دورها الاساسي في خطاب الشارع، وبتكريس عزلتها عبر تقانة الإشغال، واللهاث وراء المعاش اليومي، الذي يزداد ضيقاً يوماً بعد يوم، الأمر يجعل أيَّ ضربٍ من ضروب التناول الثقافي والتماس معه، سواء (الكتاب او الصحيفة او المسرح أو غيرها)، ما هو إلّا شططٌ من الترف، والتحليق بعيداً عن المشكلات الأساسية، المختزلة برغيف الخبز.
وهنا يبرز أيضاً مظهرٌ جديدٌ، من التلاقي بين الخطاب الرسمي، وبين الموقف الشعبي، في الاحتفالية التي تصاحب أعمالاً معينةً مثل السوبر ستار وعرب آيدول، وهذا الاستثمار للإيقاع أو الترحيب الشعبي، من قبل المؤسسات الرسمية غير خافٍ في دلالاته، حيث أنَّ الرسمي يعمل على الالتصاق الحميم، بكل تظاهرات الأعمال الفنية والرياضية، كونها تدغدغ النبض العام. سيما أنها لا تخرج إلى العيان دون مباركته ومروراً بفلاتره.
غير أنَّ الجدل الدائر بين النخبوي والشعبي، يمر عبر تاريخية الأعمال بأطوار تبادلية، فينقلب الشعبي إلى نخبوي، ويتحول النخبوي إلى شعبي، وليس ذلك كون الشعبي أقل قدرة على تذوق الاعمال الفنية، أو الإعلامية العالية، إنَّما هو عدم القدرة قديماً على التواصل. فقد حولت إذاعة صوت العرب “ام كلثوم” إلى ظاهرةٍ شعبية، حيث كانت الجماهير العربية، في ساعةٍ معينةٍ تلتف حول جهاز الراديو لمتابعة حفلتها الشهرية، وبمرور الأيام أصبحت أم كلثوم ظاهرةً من الطرب النخبوي الكلاسيكي، ثم ما لبثت أن عادت إلى الشعبية مرةً أخرى بفعل مسلسل “أُم كلثوم” الذي عرض في رمضان “1999”، وبالتأكيد فإنَّ النخبوي لا يعني الفاخر، وإنَّ الشعبي لا يعني المسف أبداً، إنما هي حالة الإنسان أو الشعب، التي تتردى في مناخات غياب الحرية، وشيوع الكبت العام، والتي تتألق في فضاءات الحرية وشيوع النقد.
ويمكننا ملاحظة أنَّ الخطاب عبر المواقع الالكترونية، قد ألغى وبشكلٍ فائقٍ، استئثار النخب الثقافية بالمعرفة والاطلاع، وبقي هنالك تنوعٌ، وليس استئثار في التحليل والتأويل، الذي يتناوله النص.
يتبدى الجانب الأخطر في تقانة الصورة، في قدرتها الفائقة على نقل الحدث معرى إلى المشاهد، على تنوع أطيافه، تاركة فعل التأويل والتحليل له وحده، هذا إن تم نقل الصورة بحياديةٍ عالية، وهذا ما يمكن الوصول إليه، بفعل التعدد الهائل للمواقع وتنوعها، مما يُتيح للمتابع رؤية الحدث من زوايا متعددة.
وكما تحكي قصص الهنود الحمر، عن الهندي الذي وصل إلى إحدى المدن الأمريكية بالطائرة، وبقي في صالة المطار يومين كاملين، وعندما سأله موظفو المطار، أجاب: إن جسدي وصل بسرعة، وروحي لم تصل بعد. هكذا تفعل بنا ثقافتنا الإلكترونية السريعة، التي تسبق الذهنيات وتعيد تشكيلها على نحوٍ مغايرٍ، تشكيلاً يملك زمامه الأقوى.