د. علا نصر – الناس نيوز ::
نحنُ حصيلة ما نفكر وما نشعر به وما نَسلك، وقد جاهد علم النفس بكل فروعه وتخصصاته لدراسة السلوك الإنساني وتفسيره والتنبؤ به وفق العديد من المداخل والنظريات، وما زالت مراكز الأبحاث والدراسات الأكاديمية مستمرة في إجراء البحوث والدراسات، لسبر أغوار الشخصية الإنسانية، واكتشاف كل ما هو جديد في سلوك هذا الكائن البشري المُعقّد.
نعيشُ في واقعٍ مكتظٌّ بالآخرين المختلفين والمتمايزين في سلوكاتهم، سمات شخصياتهم، ردود أفعالهم، تجمعنا بهم علاقات شتّى في الحياة، في العمل، تقوم على التبادلية والتواصل والتفاعل الاجتماعي.
فالإنسان مخلوق اجتماعي بطبعه، يميل إلى التعامل مع الآخرين في كل مكان، وفي جميع مراحل حياته من الطفولة حتى الشيخوخة.
لكن هل يا ترى سألنا أنفسنا يوماً عن طبيعة العلاقات التي تربطنا بالمحيطين على اختلاف المسافات النفسية التي تفصلنا عنهم؟ هل نحن من اختارها برباط الروح قبل الدم؟ أم فرضتها علينا صلات القُربى وروابط العمل؟ هل تجلب لنا الراحة والسكينة؟ أم تسبب لنا المتاعب والإزعاج؟ هل نحيا معهم ارتباطاً آمناً؟ أم أصبحت العلاقة عبئاً ثقيلاً علينا؟
هل فكرنا بعد لقائنا بأحدهم بنوعية المشاعر التي انتابتنا بعد هذا اللقاء؟ هل هي مُفرحة، حزينة، سلبية، إيجابية، مُبهمة؟
لسنا هنا في صدد تقييم سلوكات الناس المَرضية وغير المَرضية، ولا حتى تصنيفهم ضمن فئات السواء واللاسواء. لكننا نحاول تفكيك وفهم الآلية التي تسير بها علاقاتنا اليومية، ومن ثم إلقاء الضوء على ما أردت تسميته (بالعلاقات السامّة).
ومع تحفظي الشديد على وصم الناس الذين يعانون من اضطراب الشخصية أو من الاضطرابات النفسية بصفة السُّمية، وإلصاق هذه السمة بهم. فقد درج في الفترات الماضية مصطلح (الشخصيات السامّة)، وأصبح شائعاً في أحاديث الناس يُطلقونه جزافاً مرة على الأشخاص النرجسيين، ومرة على المصابين بداء العظمة، ومرة على مضطربي المزاج وهذا يسهم في تعزيز الوصمة السلبية للمرض والاضطراب النفسي في المجتمع، بينما هؤلاء بأمس الحاجة إلى الدعم والمساندة والإرشاد والعلاج. خلاصة القول إن المرضى النفسيين يختلفون عن مرضى النفوس والأخلاق الذين نصادفهم وتربطنا بهم علاقات سامة ربما تحتاج لوضعِ حدٍّ لها.
كيف تكون العلاقة سامّة؟ .
تأتي في مقدمة مؤشرات العلاقات السامة الشعور بالاستنزاف النفسي من جرّاء التعامل مع الأشخاص غير الداعمين وعسيري التعامل، دائمي الشكوى، محبطين ويميلون إلى نشر ونقل هذا الإحباط للجميع، إنهم لا يحتاجون نصيحتك، ولا يريدون إصلاح أي شيء، فقط يحتالون ويستحوذون على أذنك ومن ثم يمتصون طاقتك الإيجابية ويستنزفونك عاطفياً، باختصار هم لا يحترمون حدودك، وبالتالي فإن العلاقة معهم لا تقوم على توازن المشاركة والاستماع. كما وصفهم ألبرت برنشتاين Albert Bernstein: Emotional Vampires بمصاصي دماء العاطفة: الذين يجففونك ويستنزفونك، وهذا ناتج عن عدم النضج، والفشل في تجاوز التركيز على الذات في الطفولة إلى العقلية الأكثر وعياً وانفتاحاً اجتماعياً وتعاونياً في مرحلة البلوغ.
وهناك نمط آخر من العلاقات السامة يظهر مع مُدعي الوضوح والصراحة والشفافية، أحاديثهم مُنصبّة على إثبات ذلك، وبعد كل لقاء معهم ينتابكَ إحساس بأن هناك شيء ما ناقص وغيرَ مُكتمل، تبحث عنه ولا تجده، وهذا بدوره يمنحكَ شعوراً بعدم الراحة والتوتر والضيق، ربما ليقينك الداخلي أن هذا قناع يخفي خلقه الكثير من الدوافع والأهداف المفهومة وغير المفهومة.
لنصل إلى نمط العلاقة السام القائم على تكسير المجاديف وتقزيم الإنجازات وتصغيرها والإقلال من شأنها، وبالمقابل الإعلاء من قيمة أعمالهم ومنجزاتهم التافهة، سلاحهم الثرثرة والنميمة وترويج الشائعات، إنهم غيورون حسودون، يعانون من تدني احترام الذات، لا يستطيعون إثبات ذاتهم إلا بتكسر جناحي الآخر والاستهانة والتهكم. تشعر بوجودهم كأنك في حالة استنفار وصراع دائم، والحديث معهم على حد السيف مشحون بالكلمات المُبطنّة التي تحمل العديد من الوجوه والمعاني.
لنختم بأكثر العلاقات سُميّة والتي ربما نحتاج وقتاً ليس بالقصير حتى ندركها ونوصّفها ونفهم الدوافع الكامنة خلفها في محاولة منا للتعرف على طريقة التعامل مع صاحبها ذو السلوك الخبيث.
الذي يأتي بلبوس الدماثة، واللسان المعسول، والإغداق في العواطف المُزيفة، والإطناب بالكلام المنمّق المدروس لدرجة تغريق الشخص المقابل له في بحرٍ من الحَرَج والحياء توصله إلى الاختناق وعدم القدرة على التنفس، وكأنه فأر وقعَ في فخ الجبنة. وتكمن الخطورة في إدراك هذا الشخص المُتملّق المنافق لسلوكه ومحاولة التذاكي على الآخر واستغبائه لإخفاء حقيقته عن سبق الإصرار.
في النهاية يمكننا القول إن التطابق يعني أن يكون الإنسان أميناً مع نفسه، ظاهره كباطنه، وعمله مصدقاً لقوله. تماماً كالفاكهة التي يوحي منظرها الخارجي بالجمال واللذة، ومع أول كشطٍ لقشرتها الخارجية سَتكتشف زيفها والعفن المُنتشر بباطنها.
ولا حاجة للندم وجلد الذات أو وصم أنفسنا بالغباء على وقوعنا في تلك العلاقات السامّة، بل على العكس لأن معرفة تلك الشخصيات تضيف لرصيدنا المعرفي والشخصي نماذج لعلاقات غنيّة للدراسة والبحث ومن ثم اكتساب طرائق جديدة للتعامل معها، فالتفاعل والتواصل اليومي مع المحيط القائم فنٌ يحتاج الصبر والذكاء والخبرة الشخصية، باختصار هو عميلة تراكمية جوهرها التجارب الغنيّة والعميقة في معرفة الناس وطبائعهم.