[jnews_post_author ]
الثورة التي أصبحت رمزاً للحركات الاحتجاجية وللأحرار، والتي رُفع علمها في الساحات والميادين، ولاقت دعماً وتأييداً وترحيباً من كل الشعوب، وبقيت عدة سنوات تتصدر المشهد الإعلامي في العالم؛ وتم كتابة عشرات الكتب ومئات الأبحاث وآلاف المقالات عنها، وتصوير مئات الأفلام الوثائقية وآلاف التقارير؛ وما زالت تستحوذ على الاهتمام العالمي رغم كل ما جرى لها.. الثورة التي أسقطت الخوف في أكثر الدول مخابراتية وإجراماً وتعسفاً وتنكيلاً؛ الثورة التي هزت عروش الأنظمة الشمولية الاستبدادية في المنطقة؛ أصبحت في نظر بعضهم “ثورة ريفية متخلفة”!
هذه النظرة ليست وليدة اليوم، وإنما قديمة، ولها أسبابها وجذورها العميقة… لا أريد أن أرد في هذا المقال على ما طرحه بعضهم مؤخراً في هذا الشأن، فقد سبقهم باراك أوباما عندما صرح عام 2014: “لا يمكن لمزارعين وأطباء أسنان لم يسبق لهم أن حاربوا، أن يتغلبوا على نظام الأسد والمجموعات الجهادية”.
دعونا نعترف أولاً بأن الغالبية المشاركة في الثورة السورية كانت من أبناء الريف، أو من الأحياء المدينية الشعبية التي قطنها أناس من أصول ريفية، أو من مدن أقرب إلى البيئة الريفية، حيث تكون البرجوازية هشة والحالة الاقتصادية غير ناضجة بما يكفي لإنشاء نمط حياة رأسمالي. هذا أمر طبيعي لأننا لو قمنا بتفسير الحالة السورية من منطلق ماركسي، وحللنا الوضع من منظور طبقي فإننا نجد أن الفئات الأكثر سحقاً وتهميشاً وفقراً كانت تعيش في تلك المناطق التي انطلقت منها أولى الأمواج البشرية الثائرة، ومن ثم حملت مشعلها وسارت في طريق صعب ومعقد، مقدمة التضحيات الجسام. هذا لا يعني أن المدن السورية لم تشارك بالثورة، بل على العكس، كانت حمص واللاذقية وحماه سباقة في هذا المجال، لكن نظام الأسد أو الأوصياء عليه، أدركوا أن انتشار الثورة في المدن وتمكينها، لاسيما ذات النسيج الاجتماعي المختلط، سيؤثر كثيراً عليه، ويمكن أن يحسم الأمور لغير صالحه، ويُفشل مخططاته لإدارة الأزمة: عدم السماح بإضفاء الطابع الشعبي العام على الثورة قدر الإمكان وإظهارها ذات بعد طائفي واحد (سني)، ومن ثم أسلمتها ونشر التشدد في أوصالها من خلال الإفراج عن السجناء الإسلاميين لديه وتأسيس المنظمات الراديكالية؛ وعسكرتها وجعلها تستخدم العنف ضد العنف الأمني السلطوي المتوحش والمنفلت من كل الضوابط والأحكام الإنسانية، وبالتالي تكون مشروع “حماه ثانية”. لذلك كان الهم الأول لدى المافيا الأسدية هو القضاء على الثورة في حمص وجامعة حلب، حيث الروح الثورية الحقيقية والمشاركة الجماهيرية الواسعة من كل فئات الشعب؛ وبنفس الوقت تأمين المناطق ذات الأغلبية الكردية بعد موافقتها على تجنيس عديمي الجنسية منهم، والسماح لـ “حزب البي كا كا” بالتسلح وبسط السيطرة هناك، ليمنع أي تقارب أو تنسيق بين الأكراد والعرب. لقد نجح في هذا نوعاً ما، وأحدث الشرخ تلو الشرخ في صفوف الثورة: طائفي، قومي، مذهبي، مناطقي، جهوي.
أغلب الثورات السابقة في التاريخ أدت إلى استبدال هيمنة فئة معينة بهيمنة فئة أخرى؛ وفي الثورة السورية تحولت الهيمنة في بعض المناطق المحررة إلى قيادات عسكرية من الريف السوري، لاسيما في دمشق وحلب. كانت هذه القيادات مطلوبة للسيطرة على الوضع وإدارته، فيما تأسست هياكل سياسية في الخارج لتمثيل الثورة، رغم أنها لم تكن في غالب الأحيان ثورية أو ممثلة للداخل، وبدا أن الأغلبية الخاضعة للنظام سابقاً، والتي شاركت في الثورة لاحقاً، أصبحت تعمل لحساب هاتين المجموعتين، أو تصالحت بهدوء معهما. وهكذا، أطيح بالفئة السائدة في المناطق المحررة، واستلمت فئة أخرى بدلاً منها، لتشكل سلطة الأمر الواقع وتدير الدفة وفقًا لمصالحها ومصالح داعميها وليس للصالح العام.
إن مشاركة الأغلبية في الثورة لا يعني أبداً أن تعمل الثورة لخدمتها بعد نجاحها ولو جزئياً، وهذا يعني أنه في الكثير من الحالات تتصرف – عن علم أو بغير وعي – لمصلحة تلك الفئة فقط؛ ولكن هذا بالتحديد ما يعني في الأدبيات الاجتماعية بـ “السلوك السلبي للأغلبية”، الذي يجعلها مستكينة لما آلت إليه الأوضاع، ويدفعها للتراجع عن مقاومتها وأهدافها، وبالتالي يكرس فئة (حملة السلاح الداخليين والسياسيين الخارجيين) لتمثل الشعب الثائر كله.
ولكن إذا تخلينا عن المحتوى المحدد للحالة السورية، فإن الشكل العام لأغلب الثورات كان ومازال يخدم أقلية معينة ساعدتها الظروف أو الحظ للصعود وتبوء هذه المكانة. فثورة “أكتوبر”، مثلاً، بقيت لوقت طويل حكراً على البلاشفة الذين قاموا بها!
بعد النجاح الكبير الأول للثورة السورية، بدأ التراجع وانقسم المنتصرون عموماً: كان جزء منهم راضياً عما تحقق، والجزء الآخر رغب في المضي قدماً، طارحاً مطالب جديدة تتوافق، جزئيًا على الأقل، مع المصالح الحقيقية أو المتخيلة للجماهير العريضة. لكن الكثير من هؤلاء سقط في الطريق شهيداً وغادر المسرح مبكراً أو اضطر للنزوح والهجرة إلى الخارج نتيجة التهديدات أو إنغلاق الآفاق أمامهم، لتفرغ الخشبة ويبدأ بعضهم في الصراخ من الكواليس حول التقاعس والخيانة والارتزاق والاستكانة لما تمليه الجهات الخارجية عليهم وأريفة الثورة وأسلمتها.
تغيرت جميع الظروف إلى الأسوأ، وتبددت الأوهام، وتبع ذلك خيبة أمل كبيرة، لاسيما بعد سقوط حلب… وهنا بدا أغلب من بقي في الأراضي المحررة في حالة عجز وضيق وجمود، بحيث لا يعرفون أي طريق يجب أن يسلكوا.
في الثورة السورية لم يكن هناك برنامج سياسي مصاغ بشكل مناسب كي يجمع كل من ثار.. هؤلاء عرفوا فقط أنهم لا يريدون أن يعيشوا مثل آبائهم، لكنهم لم يعرفوا كيفية تحقيق ذلك. وهنا تستحضرني ما قالته كيم غطاس عندما رافقت عام 2011 وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون في جولتها الشرق أوسطية، وانتهى بهما المطاف في ميدان التحرير أثناء ذروة الثورة المصرية، حيث سألت هيلاري قادة الاحتجاج الشباب عن كيفية استعدادهم للانتخابات، فأجابوا: “نحن لا نشارك في السياسة، نحن نصنع ثورة”. هذه اللامبالاة تجاه خواتيم ثورة قدمت الكثير من الشهداء لم تصدم كلينتون فحسب، وإنما فتحت المجال فيما بعد للإخوان المسلمين بالانقضاض على الثورة وسرقتها من أصحابها الحقيقيين؛ لأنهم لم يعملوا على تشكيل المؤسسات والتنظيمات والأحزاب خاصتهم، واستخدموا وسائل الإعلام الجديدة من أجل حل كل شيء، مثلما يفعل السوريون اليوم، وفشلوا… أجل، ربما كان بول فاليري صادقاً عندما قال: “تؤدي الثورة في يومين عمل عشر سنوات، وفي عشر سنوات تدمر عمل خمسة قرون”.
يبدو أن فترة الثورات الشعبية قد انتهت لفترة من الوقت، ولن تليها فترة من الثورات الأخرى… رغم أن الحراك الثوري الذي ظهر في السويداء مؤخراً قد بشر باندلاع ثورة طرفية ستتحول إلى ثورة أغلبية جديدة، لكن سرعان ما اختفى بريقه، لأنه من المستحيل في هذه الظروف الاعتماد بالكامل على أن ثورة واضحة غريزية وعفوية ستحدث ولا يمكن إيقافها.
يجب أن ندرك حقيقة واحدة ربما تنقذ الثورة السورية من شروخها وتنظفها من القرحات والأدران التي علقت بها، وتخرجها من عنق الزجاجة التي استعصت فيه، والتي تكمن في تأسيس الأحزاب والتنظيمات والتجمعات حسب المجالات والتوجهات. يجب فهم أنه لا يمكن تحقيق التغيير المستدام إلا من خلال المشاركة حصريًا في العمل الاجتماعي والتنظيمي المشترك. في هذا الوضع بالضبط يمكن أن تنجح الثورة، الثورة التي لا تصب في مصلحة فئة ما، وإنما في مصلحة الأكثرية الأصيلة… وحتى ذلك الحين تبقى الثورة في إجازة…