محمد برو – الناس نيوز ::
كثيرة هي المقاربات التي تحدثت عن دور الحرية الغائبة، وتسلط أجهزة الأمن وطغيان القمع، في انبعاث الثورة السورية، وفي هذا الكتاب “الجذر الاقتصادي للثورة السورية” يسلط الدكتور أسامة قاضي الضوء على الواقع الاقتصادي في سوريا قبيل الثورة، ودوره المهم في دفع السوريين لثقب جدار الخوف والخروج عن الصمت، الذي ألزموه عقوداً طويلة.
وكما يشير الكتاب إلى مدى تأثير الظلم الاقتصادي، الذي كان له دور المرجل الذي يراكم هذا الغليان الكارثي، دون أي تفكير بإجراءات تبريديه، كان يمكن لها أن تخفف من حدة هذا الاحتقان المفضي للانفجار بالضرورة، “والحقيقة إن هذا التخفيف كان من شأنه أن يؤخر اندلاع الثورة زمنياً وحسب”، لأن الغليان الذي يجري له أوجه متعددة ليس أسوأها الغليان الاقتصادي، وإن كان أوسعاها طيفاً وتأثيراً في الفضاء العام.
وكما يعرض الكاتب فإن الأنظمة الاستبدادية هي بالضرورة أنظمة تهدر كرامة الانسان، وتسرق مقدراته وتسرف في إهانته، وتنشر البطالة وتعيق التنمية، وتقتل حلم الشباب بالمستقبل المأمول، وتدفعهم دفعاً للهجرة، خارج البلاد التي هي بأمس الحاجة لخبراتهم وطاقاتهم، وهي بالتالي تعمل بشكلٍ، منهجي على تخليق الفساد وجعله سائداً، وتدفع باتجاه استحالة أي عملية إصلاحية، بل وتقتل الأمل في حصولها.
من هنا فإن البعد الاقتصادي عامل مباشر ومهم في أي ثورة أو انتفاضة، سواء كانت تطالب بإصلاح مباشر في الشؤون الحياتية، بحيث يحصل المواطن على غذائه ودوائه وهو موفور الكرامة، أو تطالب برحيل النظام الذي تسبب في تدهور هذه الحياة أصلاً.
وسبق للكاتب وهو مستشار اقتصادي متخصص، أن قدم أبحاثاً وأجرى لقاءات ميدانية قبل عام 2011 في محاولة لتقديم رؤية إصلاحية، يمكن لها أن تسهم في منع وصول الأزمة إلى حدود الانفجار، لكن هيهات فالعطب الاقتصادي الذي كان يعاني منه الجسد الاقتصادي السوري، تجاوز إمكانية الإصلاح وبات شأنه شأن ملك فرنسا لويس السادس عشر قبيل الثورة الفرنسية، كما عبر عنه سان جوست “هذا الرجل يملك أو يموت”، لقد كانت انعكاسات هذا التردي كارثية، فقد طغى الفقر وعمت البطالة وأصبح الفساد في كل مفاصل الحياة السورية يكتسي لبوس القانون والأمر الواقع.
شهدت سوريا قبلها من ينادي باقتصاد السوق الاجتماعي، والاستهداء بالتجربة الألمانية، وفي مقدمتهم الأستاذ عبد الله الدردري، والدكتور عماد لطفي، والدكتور محمد الحسين وغيرهم، لكن تطبيق هذه التجربة أو تكرارها مرتبط كما يرى د. أسامة قاضي بأركانها الخمسة، التي تتضمن احترام حقوق الإنسان، سيادة القانون، المشاركة الشعبية في العملية السياسية، نظام اقتصادي موجه نحو اقتصاد السوق الاجتماعي، وعمل الحكومة الموجه نحو التنمية.
وهذا ما فصله في بحثه الذي نشره قبل الثورة السورية بسنوات، والمعنون: “دعوة للتصالح مع الذات: اقتصاد السوق الاجتماعي وإلغاء المادة 13 من الدستور السوري”، وبيّن فيه أن تجاهل تطبيق الحزمة الخماسية لاقتصاد السوق الاجتماعي ساهم في توسيع الفجوة بين طبقات المجتمع، وكرس حالة الفقر لدى قطاعات واسعة.
عرض المؤلف قصته مع مؤتمر المغتربين الأول عام 2004، وطرحه لشعار “حَلُّهُ في حَلّهِ”، بمعنى أن حلّ مشكلة النظام السوري لا يتم إلا بحلّ النظام نفسه، لأنه مستعصي على الحل، كذلك عرض مشاركته التي قدمها للبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة عام 2007، وجزء من تقرير “مشروع رؤية استشرافية لمسارات التنمية 2025″، وهي رؤية استشرافية في الاقتصاد والسياسة والقانون وحقوق الإنسان، والتي قام بها أكثر من ستين مفكراً سورياً من أجل وضع رؤية لسوريا عام 2025، وعرض بحثه المعنون: “المشروعات الصغيرة والمتوسطة و”الحوكمة الرشيدة” في سوريا… دراسة استشرافية وسيناريوهات عام 2025. كذلك أوصى بإحداث معاهد للتأهيل الفني والمهني، والإداري بأفضل المدربين محلياً وعربياً وعالمياً، والتي من شأنها أن ترفع من خبرات سكان المدن والأرياف وتؤهلهم، في وقت كان هناك ما يربو على مليون عاطل عن العمل في سوريا.
ومن الأسباب الجوهرية في فشل مقاربة تطبيق تجربة اقتصاد السوق الاجتماعي، هو تضارب مواد الدستور مع تلك السياسة، فالمادة 13 تنصّ على أن الاقتصاد السوري اقتصاد اشتراكي، والمادة 21: “يجب أن يهدف النظام التربوي إلى تنشئة جيل يؤمن بالقومية والاشتراكية”.
والمادة 23: “التربية الاشتراكية أساس بناء جيل الاشتراكية العربية”. إضافة إلى قانون الطوارئ منذ عام 1963، وغيرها من المواد الدستورية التي تتعارض مع أي توجه ليبرالي.
كل ما سبق أفضى لارتفاع معدلات الفقر لتصل إلى 40% أو تزيد، وهذا ما قدم أسباباً وجيهة لولادة الثورة السورية.
ويختم الكتاب بفقرة معنونة “نتوءات تنموية”… واستبداد فرعوني. وحكومات “البَعثِ والعَبَث”…فالثورة، حيث يخلص د. قاضي إلى أن النظام السوري هو من أشعل الثورة في مارس/آذار عام 2011 بتجاهله لكل التقارير الاقتصادية والتوصيات التي قدمت له، وخاصة تقرير استشراف مستقبل سوريا عام 2025 الذي قدم له عام 2008.
ويختم بقوله: ساهم الجذر الاقتصادي المتورم والمريض بتشكيل خرّاجات اقتصادية ملتهبة في الجسد الاقتصادي، وبدل أن يعمل النظام السوري على فتح تلك الخّراجات من خلال تنظيفها من الفساد والبيروقراطية والتوزيع العادل للثروة والعناية بالطبقة الوسطى، تجاهلَ ضرورة تطبيق ليبرالية اقتصادية “بدون تطبيق مجتزئ ومشوه” مع الليبرالية السياسية واحترام الإنسان الذي هو أصل التنمية، فخَنقَ الحريات وكمّمّ الأفواه وأصرّ على الاستبداد ما ساهم في إشعال الثورة، لأن تلك الخرّاجات الاقتصادية تحوّلت لتورُمات في سائر الجسد الاقتصادي، والنتوءات التنموية لم تُسكّن الألم الاقتصادي، بل على العكس التهب الجسد كله حتى النخاع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب “الجذر الاقتصادي للثورة السورية” نشر دار الملتقى
المؤلف، الدكتور أسامة قاضي.
يقع الكتاب في 322 صفحة