[jnews_post_author ]
توشك المعادلة السياسية القائمة في الجزيرة السورية أن تتراجع لصالح معادلة أخرى مختلفة كليا. ومن المعروف أن الوضع السائد في محافظات الجزيرة الثلاث، الرقة، دير الزور، والحسكة، استقر تحت سلطة ما يعرف بقوات قسد التابعة للإدارة الذاتية الكردية بعد القضاء في آذار/مارس العام 2019 على معقل داعش الأخير في منطقة الباغوز التابعة لمحافظة دير الزور. وتم هذا الإنجاز العسكري الكبير بفضل الدعم الذي قدمته الولايات المتحدة. وما تزال واشنطن ملتزمة بشكل كبير تجاه الطرف الكردي بوصفه الشريك الميداني في عملية محاربة داعش.
أكدت واشنطن أكثر من مرة أن لديها ثلاثة أهداف من وجودها العسكري في المنطقة. الأول هو القضاء على داعش. والثاني هو منع إيران من إقامة ممر بري يربط طهران ببيروت بالمرور من العراق إلى البادية السورية، ومن ثم دمشق وبيروت. والهدف الثالث هو الحيلولة دون استعادة النظام السوري سلطته على المنطقة. وكان لافتا موافقة الإدارة الأميركية في نهاية العام الماضي على دخول القوات الروسية إلى المنطقة، والسماح لها بتسيير دوريات مشتركة مع القوات التركية على الحدود السورية التركية. وحصلت هذه الخطوة في سياق عملية نبع السلام التي قامت بها القوات التركية والجيش الوطني السوري التابع للمعارضة، وجرى التوغل في مناطق في ريفي الرقة والحسكة والسيطرة عليها، وتعد هذه المناطق استراتيجية بالنسبة للطرف الكردي الذي كان يقيم فيها تحصينات عسكرية هامة، وخصوصا تل أبيض ورأس العين. وما كان لهذا الأمر ان يتم بالسلاسة التي سار بها، لولا موافقة الولايات المتحدة التي لم توفر غطاء للأكراد بوجه تركيا والجيش الوطني، فاضطروا للانسحاب من مناطق حدودية.
كانت تركيا تطمح للتوغل أبعد من ذلك لإبعاد الخطر الكردي عن حدودها، وضرب بنية الدويلة الكردية التي تقيمها قسد بالتدريج، ولكن الولايات المتحدة تدخلت لوقف العملية عند هذه الحدود بصورة مؤقتة، وبانتظار اللحظة السياسية المناسبة. وفي هذه الأثناء ارسلت واشنطن عدة إشارات إلى أنها ستقوم بسحب قواتها من المنطقة، الأمر الذي أصاب الإدارة الذاتية الكردية بالارتباك إلى حد أنها فاوضت النظام على تسليم المناطق التي تسيطر عليها، مقابل أن يدخل معها في حوار سياسي وتحالف لمواجهة تركيا. ولكن بقاء القوات الأميركية طمأن الإدارة الذاتية نسبيا، وهناك معلومات تفيد أن واشنطن أخذت جانب أنقرة في العديد من المآخذ ضد الإدارة الذاتية، منها سيطرة حزب العمال الكردستاني التركي على قرارها. والأمر الثاني هو إقصاء المكون العربي والأحزاب الكردية، ومنها المجلس الوطني الكردي. ونزولا عند ضغوط واشنطن دخلت الإدارة الذاتية في حوارات مع المجلس الوطني الكردي منذ عدة أشهر، وأعلن الأخير انه حصل على وعود بتغييرات في النهج الذي تسير عليه قسد.
وهناك مسألة مستجدة منذ عدة أشهر، تتمثل في الحراك العشائري الذي بدأ من ريف محافظة دير الزور وأخذ يتسع إلى باقي المحافظات، وتعد مشيخة بيت الهفل لعشيرة العكيدات المحرك الفعلي للحراك الراهن، الذي رفع مطالب واضحة ضمنها رسالة موجهة للطرف الأميركي وأعطى مهلة شهر تقارب على النفاد، وأهم ما جاء فيها ضرورة تفعيل دور المكون العربي في شمال شرق سوريا، وتسليم إدارة المناطق الخاصة بهم وأمنها لأصحاب الكفاءات منهم. كما أكدت الرسالة على وحدة الأراضي السورية وعدم تقسيمها وضرورة تفعيل الحل السياسي.
ومن دون شك فإن أي تحول أساسي في منطقة الجزيرة متعلق بصورة أساسية بنتائج الانتخابات الأميركية، وحظ أي معادلة جديدة من النجاح مرهون بإعادة انتخاب ترامب لولاية رئاسية ثانية، ذلك أن مساحة تفاهم إدارة ترامب مع تركيا أوسع منها في حال فاز منافسه الديمقراطي جو بايدن. ومن الجدير بالملاحظة التصريحات التي صدرت عن المسؤولين المكلفين بالملف السوري جيمس جيفري وجويل ريبورن خلال زيارة لتركيا في الأسبوع الأخير، واللقاءات التي عقداها مع الائتلاف السوري والمسؤولين الأتراك، وخلاصتها أن الشمال الغربي من سوريا لن يشهد في المدى المنظور عمليات عسكرية واسعة النطاق، وأن واشنطن مستعدة لدعم الجانب التركي إذا تجاوزت قوات النظام خطوطاً رُسمت لها في محافظة إدلب. وقال نائب مساعد الوزير لشؤون الشرق الأدنى والمبعوث الخاص إلى سورية، جويل ريبورن، “إذا حصلت أي حملة عسكرية ستكون واشنطن مستعدة لدعم أنقرة بما تستطيع فعله”. ومن الواضح أن تصريحات المسؤول الأميركي تحمل تحذيرات للجانب الروسي من مغبة تصعيد في محافظة إدلب التي تضم نحو 4 ملايين مدني، هم بمثابة قنبلة بشرية تخشى تركيا من تبعات انفجارها في حال تقدم قوات النظام شمالاً، حيث المدن والبلدات المكتظة بالمدنيين. وفي الوقت ذاته أكد المسؤولان الأميركيان أن التفاهم الوحيد بين واشنطن والإدارة الذاتية هو الذي يقوم على محاربة داعش.
——————-
بشير البكر