[jnews_post_author ]
تناقلت بعض المواقع الإلكترونية مؤخرا أنباءً، تتحدث عن عمليات نهب لآثار من منطقة حوض الفرات بالقرب من مدينة البوكمال، تقوم بها ميليشيات محسوبة على إيران. وهناك من يجزم من الناشطين أبناء المنطقة أن عمليات السطو على الآثار قائمة منذ بداية اندلاع القتال في هذه المنطقة قبل سنوات، ويجري ذلك من قبل أطراف متعددة، ومنها ما يتم نقله إلى إيران، والباقي يذهب إلى أيدي المهربين الذين يعملون في الأسواق الدولية. ورغم أن هذا النشاط محرم على المستوى الدولي، فإن ما يتم اعتراضه من آثار مسروقة لا يشكل سوى الجزء اليسير من كميات كبيرة.
الجزيرة السورية منطقة خصبة وأرض مثالية لتجارة الآثار لعدة أسباب، أولها هو، أن هذه المنطقة غنية أثريا نظرا إلى تعاقب الحضارات عليها منذ عهود ما قبل الميلاد مثل الحثيين والآراميين والبابليين والآشوريين، فهي تعد جزءا أساسيا من حضارة ما بين النهرين (ميزوبوتاميا)، ولهذا السبب عرفت نشاطات تنقيب واسعة منذ مطلع القرن العشرين، وتم وضع اليد على أجزاء كبيرة من آثارها، ويبقى المثال الصارخ ما قام به الدبلوماسي الألماني ماكس فون أوبنهايم الذي نقل القسم الأكبر من كنوز تل حلف إلى ألمانيا. وتل حلف منطقة تقع على ضفاف نهر الخابور في مدينة رأس العين بمحافظة الحسكة. وتذكر المعلومات التاريخية أنه في القرن العاشر ق.م استولى الآراميون من “بيت بحياني” على تل حلف التي تم إعادة تأسيسها تحت اسم غوزانا.
وكما هو معروف قام أوبنهايم بعمليات تنقيب في عام 1899 استمرت عامين، بينما كان يمسح المنطقة لبناء سكة حديد الحجاز التي كانت فكرة ألمانية بتمويل من دويتشه بنك، واكتشف هناك قصورا تاريخية وقطعا فنية بحالة جيدة وتماثيل. اكتشافه هذا مثّل حدثا هاما في تاريخ التنقيب عن الآثار، وعاد في عام 1911 إلى تل حلف مجددا، وبدأت عملية التنقيب، بمساعدة حوالي 500 من السكان المحليين. وخلال ذلك عثروا على القصر الغربي، وعلى معالم أثرية عليها رسومات واضحة لحيوانات وبشر، وتماثيل حجرية ساحرة، ثم عثروا على القصر الشمالي الشرقي، وعلى سور المدينة، وبوابات، ومدافن، وحجرة سميت بالقاعة الثقافية. وتمكن أوبنهايم بطرق شتى من نقل أكثر من 500 قطعة معروضة الآن بمتحف برغامون في برلين، من بينها تماثيل حجرية، ولقى من القبور، وملابس شرقية قديمة، كلها جمعها أوبنهايم خلال جولاته إلى الشرق، ويعود القسم الأكبر منها إلى تل حلف نفس المكان الذي توجد فيه مدينة أو دولة الآرامية “غوزانا” المذكورة في الإنجيل. وبعد انتهاء عمليات استخراج الآثار من تل حلف بقي قسم منها في متحف حلب، أما القسم الأكبر فقد استولى عليه أوبنهايم وشحنه على ثلاث عشرة عربة قطار من حلب إلى ألمانيا.
وتل حلف ليس الكنز الأثري الوحيد في هذه المنطقة، بل هناك مئات الكنوز الأثرية على ضفاف الأنهار مثل الخابور والجغجغ نزولا نحو الفرات، في مناطق تتبع لمحافظتي دير الزور والرقة، وأغلبها تعرض للنهب والسرقة سابقا على يد عصابات منظمة شارك فيها متنفذون من النظام السوري.
أما السبب الثاني الذي يجعل منطقة الجزيرة مستباحة أثريا الآن هو، عدم وجود سلطة سورية مسؤولة تهتم بحماية الثروة التراثية، وتحميها من النهب والدمار بسبب الحروب. وكما هو ملاحظ فإن الثروات المادية في المنطقة جرى تقاسمها من قبل الأطراف التي تسيطر على المنطقة، وبات كل طرف يتصرف بالآثار التي تقع تحت سلطته.
والسبب الثالث يعود إلى وجود أسواق دولية لهذه الآثار التي يتم تهريبها وبيعها وفق آليات تهريب، تقوم بها عصابات دولية متخصصة، تنشط في صورة أساسية داخل مناطق النزاعات والحروب، وبعض الآثار يعرف طريقه إلى أسواق دولية مرموقة في عواصم تحارب هذا النشاط وتجرمه. والسبب الرابع هناك من له مصلحة في طمس هوية المنطقة وتاريخها، وتشهد على ذلك المشاريع السياسية الراهنة التي باتت تطرح لمستقبل الجزيرة بعيدا عن سوريا.
إذا كان الإيرانيون يسرقون الآثار السورية، فإن ما يأمله المرء، على الأقل، أن يكون مصيرها مثل مصير آثار تل حلف التي نهبها أوبنهايم وأقام لها متحفا، وهي تحتل جناحا خاصا في برلين اليوم، فهي على الأقل موجودة ومعروضة للزوار، ويعرف العالم أنها جزء من تاريخ سوريا الأرض التي ولد فوقها التاريخ.