[jnews_post_author ]
ظلت الجزيرة الفراتية – بمفهومها الواسع- قلب العالم القديم وعقله الجمعي، الذي انصهرت فيه جميع قوميات وإثنيات وأديان وطوائف الشرق الأوسط؛ وفي أجزائها السورية امتدت على كامل المناطق الحضرية الواقعة على ضفتي نهر الفرات في محافظة دير الزور وصولاً إلى كامل شمال شرق سورية في الحسكة، كما تشمل أيضاً ما يُعرف بـ ” الأقاليم الشمالية” التي ضمتها تركيا بعد معاهدة لوزان 1923 في سروج، وحران، وماردين، ونصيبين، و كردو، وبطمان، و أورفا، وديار بكر، وشرناق، وأديمان، ووان، وبدليس، والازغ ، ولواء اسكندرون؛ وفي العراق ضمت الجزيرة الفراتية كل من نينوى، وتكريت، وجزء من كركوك، وقسم من الأنبار والموصل .
يعد الآراميون أول نفث الروح وبلور الحياة الحضرية في الجزيرة الفراتية، فاشتغلوا بالزراعة وأسسوا العديد من الممالك التي سقطت على يد الآشوريين، كما شهدت ظهور ممالك سريانية أصبحت عاصمة المسيحية السريانية في العالم خلال القرون المسيحية الأولى.
قبل الإسلام؛ سار عمرو بن كلثوم – سيد قبيلة تغلب المسيحية و صاحب المعلقة الشهيرة- بالأجيال المؤمنة بالسلام إلى الجزيرة الفراتية؛ فسكنها قبل أنْ يشيّد فيها حفيده مالك بن طوق بن عتاب التغلبي قلعته الشهيرة التي سميت باسمه، والتي شكلت أهم قلاع الجزيرة الفراتية ( قلعة الرحبة في الميادين حالياً)، وخلال الفترة الأموية والعباسية قُسمت المنطقة سياسياً إلى ديار ربيعة، وديار بكر.
بعد استقلال سورية شهدت المنطقة تعافياً خجولاً أعاد روح المدنية والتحضر إليها، فدخلت الآلة الزراعية، وساعد التنوع الثقافي فيها على انتشار دور السينما والمسرح، وبرزت شخصيات من المنطقة عربية وكردية وسريانية وآشورية وأزيدية، شكلت علامات فارقة في التاريخ السوري المعاصر.
في مراحل حكم البعث في سورية، أُطلق على مناطق الجزيرة الفراتية اسم المنطقة الشرقية ( الحسكة والرقة ودير الزور) وسُميت رسمياً في سجلات الدولة السورية بـ” المناطق النائية” كمصطلح فريد وغريب لم تعهده أكثر الدول مركزية وشمولية، في اعتراف بدونية المنطقة، الذي كشف فشل الحكومات المتعاقبة في ربط المنطقة بالثقافة السورية، كما فشلها في تحقيق الإنماء المتوازن والتنمية المستدامة. فتحولت إلى ما يشبه المدائن المنسية، وتكرست صورة نمطية بشعة لها في الذاكرة المجتمعية السورية، إذ مازال الكثير من أهالي المدن المركزية يعتقدون أنّ المنطقة مجرد قبائل ترعى الغنم وتعيش في الخيم. عزز ذلك غياب أي معلومة عنها في المناهج المدرسية، فلا دور يُذكر لها أو لرجالاتها سواء في التاريخ القديم أو الحديث أو المعاصر، بما في ذلك دورها في الاستقلال والثورات السورية.
على صعيد الخدمات، وبالرغم من كون الجزيرة الفراتية عاصمة الاقتصاد السوري، وسلته الغذائية، وخزان وقوده، إلا أنها لم تحظى باستحداث جامعة إلا في العام 2006 (جامعة الفرات) وهي التي تبعد أكثر من 600 كم عن العاصمة التي تفصلها عنها كامل بادية الشام؛ في الوقت الذي تتجاور فيها الجامعات وفروعها في المحافظات المركزية بين دمشق وحمص وحلب واللاذقية، ومع ذلك يُسجل لأبناء المنطقة شغفهم بالتحصيل الجامعي، إذ لا تجد بيتاً إلا وفيه نسبة عالية من خريجي الجامعات ذكوراً وإناث.
ونتيجةً للموروث الثقافي التاريخي تعج المنطقة بتيارات من الشعراء، والأدباء، والمؤرخين والتشكيليين والمفكرين، الذين شكلوا رموزاً يُشار إليهم بالبنان داخل مجتمعاتهم، إلا أنهم ظلوا غير معروفين خارجها، بسبب ابتعادهم عن دائرة الضوء في المدن المركزية الكبرى. كما ظلت محافظاتها الثلاث آخر المحافظات التي اُستحدث فيها صحيفة يومية حكومية (صحيفة الفرات 2004).
وُصمت مكونات الجزيرة الفراتية في الذاكرة السورية بأبشع الصور النمطية الجاهزة ، بدءاً من تصدير صورة ” العربي/ الشاوي المتخلف” الذي أظهرته وسائل الإعلام السورية و درامتها التلفزيونية العتيدة محط سخرية، فظهر أمياً جاهلاً يضيع في المدينة وبهرجها؛ مروراً بتصدير صورة مقيتة لـ” الكردي/ البويجي” الذي نزل من السماء وأمامه تهمتين جاهزتين متناقضين، فلا هو ناجٍ من تهمة الانفصال ولا هو حاصل على هويته السورية؛ وانتهاءً بالآشوري والأكادي والأزيدي والسرياني، الذي ظلّ ” نسياً منسياً” في الذاكرة السورية، فآثر الهجرات إلى حد الانقراض في مهده السوري الأول.
إنها الجزيرة الفراتية، أيقونة التمدن الحضري السوري والانفتاح والتنوع الذي لا يشبه دول علب السردين، حيث تتحول المدائن إلى مربعات أمنية، والحاكم إلى حارس ليلي شاهراً سلاحه مغبة انفجار مجتمعات المخاطر.
إنه النسيان والتهميش في دول القلق، وانعدام الثقة وهوس السلطة، حين تتصيّر الحضارات إلى “مناطق نائية”، وتتحول البلاد إلى خرائب تصفر فيها الريح.