د. حسين عيسى – الناس نيوز ::
يمكن القول بشيء من المجازفة، إن التجربة الوحيدة المتبقية لنا، نحن البشر، لرأب تلك الانشطارات في كينونتنا، وإعادة الوحدة إلى كُلّيتنا الإنسانية، هي الجماع، أو ممارسة الجنس كما نقلنا عن الغربيين وشاع في لغتنا (في اللغة العربية، هي تجربة لا جمع فيها ولا اجتماع، بل جماع: كما لو أنه شجار فاعل متفاعل ومتواصل يؤديه طرفان بكليتهما، بجماعهما! أما تعبير ممارسة الجنس الغربي، فهو ينطوي على تفعيل أعضاء الجنس وتشغليها، أو تفعيل الفارق الجنسي بين المؤنث والمذكر وتشغيله(؟!) فشتان بين التصورين)!
نعم، لقد انفصل الإنسان عن الطبيعة، وبانفصاله هذا ما عاد رعشة في أورغازم الكون، وما عاد في شهواته استمراراً حَرْفياً لشهوات الطبيعة وامتداداً لها، بل أمسى معادياً لها متحكماً بها ومتسلطاً عليها وبالغ في أذيتها. وكان أن انفتحت بينه وبين الطبيعة، أمه، هوّة مرعبة سوف يحاول أن يملأها بوعي شقي وروح مثقلة بالذنب، مُعذَبة. وما انفك هذا الانشطار، بينه وبين الطبيعة، متواصلاً لا يتوقف حتى شطر كلّية الإنسان الواحدة، على نحو تعسفي، إلى وجهيها: النفس والجسد، أو الروح والجسد. وفُصل بين هذين الوجهين فصلاً عنصرياً، يُعلي من شأن الوجه الجواني، اللامرئي، الميتافيزي، النوراني، أي النفس (أو الروح)، ويحتقر وجهها البراني، المرئي، الكثيف، الفيزيائي الترابي، أي الجسد. وصارت العلاقة بين هذين الوجهين علاقة سلطة: علاقة السيد والعبد، الحاكم والمحكوم.
ولكن النفس في حقيقتها، ليست إلا ما هو اجتماعي (اللغة، الثقافة، العادات الخ) منقوشاً في الجملة العصبية للفرد، وفي الدماغ تحديداً، أي هو المدونة الاجتماعية في/وعلى جسد الفرد، هي الاجتماعي المنقوش في دماغ الفرد. والدماغ، وإن لم يكن من سكان العضلات والعظام، فهو بالتأكيد من الجسد. وبتعبير آخر فإن النفس هي علاقة الجسد بذاته، إنما عبر ما هو اجتماعي. وهي عندما يُعلى من شأنها، فإنما يُعلى من شأن ما هو اجتماعي عام، على حساب ما هو جسدي فردي، السلطة فوق الجسد.
أما الأساطير التي تحثنا على معرفة أنفسنا، كما لو أنها ذات أخرى لا نعرفها، أو تحثنا على الانتصار عليها، أي الانتصار على شهوات النفس، أي شهوات الجسد، فهي إنما تريد لما هو اجتماعي فينا، أن يحكم سيطرته تماماً، على ما هو جسدي محض فينا.
والحقيقة أن الإنسان لا “يملك” نفساً، بل هو موجود على نحو نفسي، أي موجود اجتماعياً، كما لا “يملك” جسداً، بل هو موجود على نحو جسدي، أي موجود طبيعياً. كلّية الانسان موجودة على هذين النحوين، في آن معاً، وفي كل لحظة من الزمان والمكان. الكلية الموجودة على نحو جسدي اجتماعياً. وحتى النفس في مبتدئها ليست إلا الجسدي (الدماغ) موجوداً على نحو اجتماعي.
ولولا أن البشر تورطوا في هذه الثنائيات المميتة، وجعلوا هذه التصدعات، الأساس الذي يهندسون عليه حياتهم ومجتمعاتهم، لكانت تجربة وجودنا مفعمة بالغبطة والمرح.
وسأكرر ما قلته في البداية:
يمكن القول بشيء من المجازفة، إن التجربة الوحيدة المتبقية لنا، نحن البشر، لرأب تلك الانشطارات في عيشنا، وإعادة الوحدة إلى كُلّيتنا الإنسانية، هي الجماع!
ولكن إذا لم يكن الجماع تجربة روحية عميقة مفعمة بغبطة الذوبان لا في الشريك وحسب، بل بغبطة الذوبان، برفقته، في الوجود كله، فهي تجربة حسية وحسب!
مؤكد أن في الجماع متعة حسية خارقة، ولكنها مع ذلك أدنى درجات المتعة التي يهبها الجماع. ومؤكد أن الجماع، إلى ذلك، تجربة عاطفية وانفعالية عظيمة، ولكنها مع ذلك دون الغبطة الروحية.
اللوحة هنا للفنان السوري بسيم الريس .
الغبطة الروحية تشمل كلاً من المتعة الحسية والعاطفية الانفعالية، إنما في مستوى مغاير تماماً، فقد رفعتهما التجربة الروحية معها. وهذه الغبطة الروحية يعيشها فقط العشاق والمحبون، إنما عندما تكون حياتهما اليومية، خارج السرير، طافحة بالتفاهم والانسجام الفكري والعقلي والوجداني، طافحة بالمرح والحرص على مشاعر الآخر وسعادته، عندها يكون الدخول إلى السرير ليس فقط عناقاً لجسديهما، بل أيضاً عناقاً لهما من داخليهما وحتى آخر الكون. عندما يكون السرير مقاماً لذوبان سريرة الشريكين، ذوبان للأجساد المحدودة، ذوبان في شيء كلي، قد يكون روح الكون، قد يكون الله، أو المطلق، أو لا أدري ما هو ؟
الجماع الحق، استسلام لا يدري معه الشريكان أيهما الذكر وأيهما الأنثى، مقام من المقامات الصوفية، تجربة ذوقية صوفية عميقة يختبرها البعض، بعض الأحيان!
هللويا…..فلنعش عمرنا كرعشة في أورغازم الكون! إذاً أعطنيه مرة ثانية!