ريما بالي – الناس نيوز ::
كل الفنون التي ظهرت على مر العصور كانت تهدف بشكل أساسي إلى إمتاع الإنسان، وهي متعة روحانية ونفسية وفكرية تصل إلى أعماق المرء عبر قنوات عدّة ليست إلاّ الحواس الخمس، البصر والسمع والشم واللمس والتذوق، فهل تكون الحاسّة السادسة، هي إحدى تلك القنوات؟
قد ينطبق هذا على الفن التجريدي، إذ كيف نفسّر الشهرة الواسعة والاحتفاء الشعبي والأكاديمي الكبير بلوحة مبهمة الخطوط، أو تمثال غريب الشكل لا يمكن أن يشكّلا منطقياً أية متعة بصرية؟ ما هي إذن الحاسّة التي تمتعت بهذه القطعة الفنية أو تلك؟ إنها قطعاً الحاسّة السادسة، فما هي تلك الحاسّة السادسة، وكيف تلتقط متعتها من الفنون على اختلافها، وهل تختلف من إنسان إلى آخر كاختلاف وجهات النظر مثلاً؟
ما أثار تلك الأسئلة في رأسي، خبر لوحة الفنان الهولندي موندريان “نيويورك سيتي1″، الذي اكتُشف مؤخراً أنها معلقة بشكل مقلوب (راساً على عقب)، منذ سبعة وسبعين عاماً، حيث هي معروضة في متحف دوسلدورف في ألمانيا!
هناك من كتب، أن هذا يثبت تفاهة الفن الحديث، ويكشف خداعه، فأين هي الخدعة؟ ومن الذي فبركها ولمصلحة من؟ من الذي قرر أن هذه الأعمال هي قطع فنية نفيسة؟ أهو شخص مخادع، أم شخص مخدوع؟ أم هو ببساطة، مجرد شخص واقع تحت تأثير متعة حسّية وروحانية التقطتها حاسّته السادسة؟ متعة غير مفهومة وصلت إليه من عمل غير مفهوم عبر حاسة غير مفهومة، حاسّة غريبة وغير معروفة المصدر ما أدى لتسميتها المحايدة: (الحاسة السادسة)! كأن لا يقين في مواصفاتها إلا تعدادها كآخر الحواس.
بغضّ النظر عن ملابسات اللوحة المقلوبة، وكيف قلبت وكيف اكتشفوا ذلك، دعوني أذكر أن المتحف بخبرائه ومسؤوليه وزبائنه، ظل يعتبر تلك اللوحة، قطعة فنية تستوجب العرض وتسترعي الانتباه وتنال الإعجاب، على الرغم من وضعيتها المقلوبة، وقد أوحت حتى وهي كذلك للكثيرين من متذوقي الفن وعشاقه بالكثير من الإيحاءات الفكرية، وأثارت الكثير من المشاعر المتضاربة، بمعنى آخر، اللوحة أدت رسالة ما (أو رسائل مختلفة) قد وصلت لمتلقيها.
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هنا: ما هو رد فعل الفنان الذي رسمها إن عرف إنها عُلّقت بالمقلوب؟ وهل الرسالة التي أراد تضمينها إياها اختلفت هكذا؟ وهل كان لتلك الرسالة أن تصل بشكلها الصحيح (أو بشكل مختلف)، إن علّقت بالأساس كما صمّمها هو وأرادها ونفّذها؟
وهل كانت الرسالة التي ستصل إلى ذهن المشاهد وقلبه هي نفسها تلك التي كانت في ذهن الفنان وفي وجدانه وقلبه؟
بنفس السياق، دعونا نتخيل قصيدة من الشعر المعاصر، وقد نشرت بالمقلوب، أو رواية حديثة وقد طبعت بعد أن اختلط تسلسل الفصول فيها! لنتخيل انطباعات وتعليقات النقّاد والقرّاء! وأنا أكاد أجزم، أنه كما سنقرأ استنكاراً وتهجماً وذماً، سنجد أيضاً تصفيقاً وإعجاباً ومدحاً، لأن معظم الناس، لا يقيّمون العمل الفني (مقلوباً كان أم سوياً) استناداً إلى معايير علمية ومنطقية ومنهجية، بل انطلاقاً من الانطباع الذي يسيطر عليهم، إيجابياً كان أم سلبياً. الانطباع الذي تتكفل به الحاسة السادسة، التي تختلف ترجمتها من فكر لفكر آخر، ومن وجدان لوجدان آخر.
البراهين على ذلك كثيرة، ونجدها بأوضح صورها باختلاف أذواق البشر وآرائهم في تقييم الأعمال الفنية، أقرب الأمثلة ما نقرؤه اليوم من مراجعات ونقد لأعمال الكاتبة الفرنسية آني إرنو، التي نالت جائزة نوبل في الأدب مؤخراً، حيث نجد على موقع “الجودريدز” من قيّم رواياتها بنجمة واحدة فقط من أصل خمس، (بما تفسيره أن الرواية سيئة)، في حين أعطى النجوم الخمس مثلاً لرواية “أم ميمي” للكاتب المصري بلال فضل، التي وجدها الكثيرون سوقية ولا تستحق لقب رواية.
يقول الفيلسوف والكاتب الإيطالي أمبرتو ايكو ما معناه: لكل نص مكتوب ثلاثة وجوه، ما كُتب حرفياً، وما قصده الكاتب، وما فهمه القارئ”، وكم من قارئ يأوّل نصاً بما لم يدر في خلد الكاتب أو حتى بما يناقض مقاصده، وهكذا، نجد للكتاب الواحد، عشرات القراءات، وآراء متعددة، وردود أفعال متناقضة، تعود كلها، إلى التأويل الذي قام به القرّاء، والذي قد يختلف من واحد لآخر، اختلاف الشرق عن الغرب.
وبرأيي، تلك الرؤية تنطبق على كل الفنون، والتأويل الذي يلجأ إليه المتلقّي، هو ما توحي به إليه حاسّته السادسة، وأعتقد أن الأشخاص الذي يفتقرون إلى تلك الحاسّة، أو يعانون من ضعفها، لا يستمتعون بالفنون بالدرجة نفسها التي يستمتع بها أصحاب الحساسية العالية والمرهفة.
فالفن إذن، هو عمل مشترك بين المبدع والمتلقّي، المبدع هو فنان في تصميم وتنفيذ العمل (وهي موهبة تختلف من مبدع لآخر)، والمتلقّي هو فنان في استقبال العمل، وتأويله، والتأثر والاستمتاع به (وهذه أيضاً موهبة تختلف من متلقٍ إلى آخر).
وهكذا، فقد صدق من قال إن الفن متعة، وإن المتعة فن… ليس للأسف كل البشر موهوبين كفاية ليكونوا فنانين مبدعين، لكن لحسن الحظ، الجميع قادر على تنمية تلك الموهبة الأخرى: فن تلقّي الإبداع والاستمتاع به، والكل مدعو، إلى تحرير حاسّته السادسة، والإنصات إليها، والإيمان بها على اختلافها.
الفن أشبه بطائر حر جناحاه من خيال، وأفقه الشاسع لا يحدّه عقل ولا يحكمه منطق، على الرغم من كونه في الوقت نفسه، الغذاء الأساسي لنمو العقل، والسبب الأقوى لأنسنة المنطق.
بابلو بيكاسو، الرسام الإسباني التكعيبي الشهير، يقول: “نعرف جميعاً أن الفن ليس هو الحقيقة، أنه كذبة تجعلنا ندرك الحقيقة”.