د. محمد حبش – الناس نيوز ::
مضت عشرة أشهر على استشهاد مهسا أميني المرأة الكردية الحرة التي اعتقلتها شرطة الآداب في إيران بدعوى التهاون في الحجاب، ثم سلمتها لأهلها جثة هامدة، وقد كان لهذا الحدث الصاعق أثر كبير في مراجعة الحريات في إيران، وخفت قبضة السلطة نسبياً في شأن اللباس، وقد تحقق التطور نفسه في السعودية لأسباب أخرى وبات تدخل الشرطة الدينية في لباس النساء أمراً من الماضي.
ولكن السلطات الإيرانية استأنفت هذا الأسبوع من جديد قبضتها الشديدة على مسألة الحجاب وعادت إلى اعتبار الحجاب مظهر الولاء والبراء، فيما بات السفور صورة من الانتماء للغرب الكافر.
وفي أفغانستان تعتبره طالبان ركناً في الدين يجب فرض أشد أشكاله قسوة وتعنتاً على المجتمع برمته.
وفي الوقت نفسه تعتبر فرنسا الحجاب رمزاً دينياً تمييزياً يجب مناهضته، وخاضت لوبان حملتها الانتخابية على أساس منعه في كل مكان، وإخراج المحجبات من فرنسا، فيما اكتفى ماكرون باعتباره حرية شخصية مشروعه، مع منعه في التعليم والوظائف الحكومية حيث يكون رمزاً تمييزياً.
ومن المؤلم أن تعتبر طالبان وإيران قضية الحجاب أم المعارك، وأن ترغم نصف المجتمع على العودة إلى المنزل، وتمنع معظم فرص العمل الحقيقية على النساء، وتنكر أي تغير في الزمان والمكان، وتصر على تطبيق أشد الفقه تعنتاً وقسوة بحق النساء، دون اعتبار لروح الشريعة في الرحمة والتعاون والإنصاف، ثم تقامر بعلاقاتها الدولية ومصالح الأمة الحقيقية من أجل التمسك برأي فقهي شديد أخذ به المتعصبون، وتترك عشرات الآراء الفقهية المتسامحة التي تستند إلى روح الشريعة وينادي بها فقهاء محترمون.
من المؤلم أن تكون قضية الحجاب أولوية في بلد تترنح فيها الدولة في أسفل قوائم الأمم في الاقتصاد والتعليم والصحة والأمن، حتى بات يهاجر عنها كل من استطاع سبيلاً.
ومع أنني أعارض بشدة موقف مارين لوبان ضد الحجاب، وأعتبره موقفاً متطرفاً غاشماً، ولكن في الوقت نفسه فهل المشكلة كلها في الطرف الآخر؟ وهل نحن مجرد مفعول به منصوب وقع عليه فعل الفاعل؟ ألا نحتاج مراجعات عميقة لمواقفنا الفقهية؟
قناعتي أننا مطالبون بإصلاح وعينا في الحجاب، وذلك في ثلاث نقاط أساسية:
أولاً: يجب أولاً تمييز الحجاب عن النقاب، فالنقاب لم يعد على الإطلاق سلوكاً مقبولاً في أي مكان في العالم، ولا يمكن إقناع أي أمة من الأمم أن تستضيفنا ونحن ملثمون رجالاً أو نساء، فالنقاب بغض النطر عن قمع الحرية فيه، هو صورة من ثقافة الريبة بالناس واتهامهم وتخوينهم، واصطفاف المنقبة وأسرتها تلقائياً ضد المجتمع الذي يتربص بها ويحاول اغتصابها والاعتداء عليها ويختصر الحل في مواجهة المجتمع بدخول المرأة إلى هذه الخيمة السوداء في هذا العالم المتوحش الحاقد.
والنقاب وإن أفتى به فقهاء من المذاهب الأربعة فإن فقهاء آخرين من المذاهب الأربعة أيضاً أفتوا بأنه بدعة مستحدثة في الدين، وهو من تأثير روايات أهل الكتاب في التفسير، وكذلك فإن عدداً من الصحابة الكرام أكدوا أن النقاب ليس من أصول الشريعة ولا من فروعها، وقد بينت ذلك بالتفصيل في كتابي المرأة بين الشريعة والحياة.
ثانياً: يجب إعادة الحجاب (غطاء الرأس) إلى مكانه الشرعي أدباً تحترمه الشريعة وتدعو إليه، وليس فيصلاً بين الإيمان والكفر، ولا ركناً في الدين يقوم عليه الإسلام وتشرع له صهوات الجياد وينادى فيه يا خيل الله اركبي.
والعجيب أن الفقهاء متفقون أن الحجاب ليس من أركان الإيمان ولا من أركان الإسلام، ولم يذكر أي فقيه معتبر أن كشف الشعر من الكبائر، وقد جمع الإمام الذهبي كل الكبائر في مصنف واحد ولم يأت على ذكر السفور، ولم يرد في القرآن الكريم ذكر الحجاب بمعنى اللباس أبداً، وإنما وردت بعض نصائح قرآنية عامة تحتمل تأويلات متعددة، وقد بينت الآيات بوضوح لطيف أن الهدف هو أن يعرفن فلا يؤذين، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، وكذلك فإن هذه النصائح لم تقترن بأي وعيد أو عقاب أو عذاب كما هو الحال في المحرمات.
وقناعتي أن الأمر بالحجاب في القرآن الكريم لا يبلغ رتبة الوجوب التي وردت بها النصوص الأخرى، فحين حرم الله القتل والسرقة والحرابة جاءت النصوص شديدة قاسية وفرضت الحدود الصارمة، وتوعدت بعذاب الجحيم لمن يقترب من هذه الكبائر، ولكن لم يرد شيء من ذلك في الكتاب العزيز بشأن الحجاب، ولم يتجاوز الأمر الوارد مرتين حدود النصيحة والاستحسان: وليضربن بخمرهن على جيوبهن، قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين، فهذه الوصايا من صيغ الأمر الاستحبابي المرتبط بمصلحة الفتاة وظروفها، وهو يشبه الأمر مثلاً بكتابة الدَّين، فقد ورد الأمر بكتابة الدَّين ثمان مرات في آية واحدة هي أطول آيات القرآن الكريم: إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه، وليكتب بينكم كاتب بالعدل، ولا يأب كاتب أن يكتب، فليكتب وليملل، ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله، فهذه ثمانية أفعال أمر بكتابة الدين، ولكن الفقهاء اتفقوا أنها على سبيل الاستحباب، وأن الحقوق تثبت بالدين ولو لم يكن مكتوباً، وأن ترك الكتابة حين يأمن الناس بعضهم بعضاً هو أمر مشروع ولا إثم فيه ولا عقاب على تركه.
إن التعامل مع الحجاب بهذه الروح الواقعية القرآنية يحول دون اعتبار الحجاب قضية القضايا وأم المعارك، ولا يمس في شيء مكانته واحترامه كأدب إسلامي كريم وجميل، تفوض المرأة وحدها بتقدير حاجتها إليه أو حاجتها إلى التسامح فيه.
ثالثاً: وفي سياق ذلك يجب أن تتقبل المسلمة قوانين البلاد التي تهاجر إليها، وأن لا تجد غضاضة في تطبيق القانون وابتكار البدائل، فقد رفع الله الحرج عن المضطر، وفي الحجاب بالذات فقد رفع الله الحرج أمام المحارم وقرابة الرضاع والتابعين غير أولي الإربة وما ملكت أيمانكم وغير ذلك من الأصناف التي ذكرها الفقهاء ومنها ما يبدو عند المهنة وما يبدو عند الجهاد، والشعر المسترسل، وهذا كله يفتح باباً واسعاً لانسجام المرأة المسلمة مع المجتمعات التي تعيش فيها.
ولا شك أن التزام المرأة المسلمة بالقانون لا يعني على الإطلاق تسليمها بصواب القانون وعصمته، بل هو محض التزام قانوني يمنحها حق الاعتراض والانخراط في هيئات وأحزاب ونقابات تطالب بتعديل القوانين واحترام حرية النساء، وهو مناسبة للحديث عن المعاني العميقة لثقافة العفاف والأسرة في الإسلام.
وفي الختام فإنني آمل أن لا تتوقف الأقلام الإسلامية الغيورة على مصالح المسلمين من استنكار الممارسات الطالبانية والإيرانية التي تؤكد للعالم أن الإسلام يعيش خارج التاريخ ولا يؤمن بتطور الحياة ولا واقعية الفقه الإسلامي، فالكتابة تصنع الرأي العام، ومن حق المسلمة الأفغانية والإيرانية والمسلمة الفرنسية أن تقرأ فقه اليسر والتسامح وفق روح القرآن الكريم، ومن المؤسف ان حملات التسامح والمرونة واليسر التي دعت إليها الشريعة يواجهها اليوم بعض الواعظين الغاضبين باتهامات لا تليق فيصفونها بأنها الإسلام الكيوت، الإسلام المميع، الإسلام الأمريكي، في حين أن القرآن الكريم منحها أسماء شرعية حقيقية فهي: اليسر وهي رفع الحرج وهي التخفيف وهي الرخص، وإن الله يجب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، ويريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، ويريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً.