فواز حداد – الناس نيوز ::
الحرب التي كانت على حافة الهاوية، وتكاد أن تأخذ العالم إلى حرب كونية، بدأت تأخذ إيقاع الحروب الكلاسيكية، مع الأخذ بالاعتبار تطور الأسلحة الثقيلة، وما تمتاز به من كثافة نارية وإيقاع أكبر قدر من الدمار.
حرب بين تقدم وتراجع لصالح روسيا، وإن كانت آخر التقارير العسكرية الغربية تتوقع فوز أوكرانيا في الحرب.
الوقائع على الأرض تشير إلى أن أعداد القتلى والجرحى والخراب والتهجير في ارتفاع، إن لم يوضع حد لها خلال أشهر قليلة، فسوف تستمر، وتصبح أوكرانيا أشبه بسوريا، ستخوض حربا يائسة، لا تختلف عنها سوى أنها تقع في العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين، لكنها لن تطول مثلها، فالحرب في أوربا، وليس في الشرق الأوسط .
تعيد أوربا سيرتها، لم ترد استفزاز هتلر، وبعد أكثر من نصف قرن لا تريد استفزاز بوتين . حاولت تهدئة ألمانية النازية على أعلى المستويات، لكن الحرب العالمية الثانية كانت مبيتة، لم تنفع الجهود الدبلوماسية ومحاولات إرضاء هتلر. مثلما حدث قبل الحرب الأوكرانية. كان الوضع خطراً بما لا يقاس، ولم يكن الحذر الشديد الا مخافة أن تقع الحرب العالمية الثالثة.
من حسن الحظ، بوتين المجنون، كما وُصف في الصحافة العالمية، لم يؤهله جنونه لإشعالها، إنما التهديد بها فقط، كما أن أوربا العاقلة لم تكن مؤهلة لحرب لن تشارك فيها، ولو كانت ستدور في القارة، لن تسمع منها سوى قصف المدافع والطائرات، وترى مواكب اللاجئين تعبر حدودها.
حرب جديدة، ستخوضها أوربا على طريقتها، لا اشتباكات طبعا، التجسس القديم سيتضاءل لحساب التجسس الإلكتروني، طرد دبلوماسيين، مع ضغوطات متنوعة، وتجنيد الإعلام لصالح أوكرانيا. وكي تكون الأمور مضبوطة، تزايدت القنوات السرية المتبادلة بين جميع الأطراف، خشية من احتكاك في السماء أو الأرض.
لن تذكرنا الحرب خارج أوكرانيا بالحرب الباردة، ستكون فاترة، سيزود الغرب أوكرانيا بالسلاح بدعوى الوقوف معها، والشد من أزرها في محنتها، لكن لا صراع مع روسيا، وإنما نوع من المناكفات، تناسب حربا فاترة، تبرد وتسخن. وقد تدوم طويلاً، ما دام لا قدرة لأحد على تغيير عياراتها، على أمل أن تفلح العقوبات الاقتصادية في تركيع روسيا، مع أنهم يعرفون أنها لن تفلح، بوتين دخل إلى أوكرانيا ولن يخرج، كما أنه غير مستعد للخسارة.
مع هذا، توقعات الغرب متفائلة بإنهائها على نحو غاب عن بوتين، وفي محاولة لطمأنة الرأي العام المتعاطف مع الأوكرانيين، جرى الاسترشاد بالتاريخ، فحسب تحليل المقامرة الروسية، فهي محاولة من بوتين لإعادة تأسيس شكل محدث من الإمبريالية الروسية.
لكنه نسي أن الأحداث التي تسببت بنهاية القيصر الروسي نيكولاس الثاني، هو خسارته الحرب ضد اليابان سنة 1905، أعقبها اندلاع الثورة البلشفية. هذا الدرس تحاول أوربا إبلاغه لبوتين، وهو أن الحكام المستبدين لا يمكنهم البقاء في السلطة إذا خسروا حربا، حتى لو كسبها على الأرض، فسوف يخسر عندما تتوقف المعارك، إذ من المستحيل على روسيا أن تهضم الخسائر المهولة التي ستمنى بها.
هذا التوقع، مجرد افتراض. لا يأخذ بعين الاعتبار أن الدكتاتوريات الحديثة لا تخجل، تبقى، ولو خسرت حربا وفقدت أراض من بلدها، حتى لو أنها أصبحت بلداً محتلا من أربع دول، بل وتقلب الهزيمة إلى نصر.
مع هذا، سيصبح هذا التوقع البعيد المدى مبرراً لعدم تدخل الغرب، مادام أن بوتين طال الزمن أو قصر سيفقد السلطة، فالحرب لا تعني إلا الكارثة. هل لهذا التحليل وأمثاله تأثير في توريط الأوكرانيين بالتصلب في مواقفهم، والارتياح الأوربي لنهاية حرب ما زالت في بداياتها؟ أما ما يجب أن يفهمه الأوكرانيون فهو على هذا النحو: ألا ينتظر من جيرانهم مساعدة تقلب موازين الحرب لصالحهم.
هذا الدرس واقعي جداً، ومؤلم جداً، بالنسبة إلى السوريين، تلقوا مثله تماماً من أصوات كانت ضعيفة، لم يستمعوا إليها، عولوا على الخارج، في لحظات تاريخية امتدت سنوات، كان أصدقاء سوريا معهم، وكان من كثرتهم، أنهم بدوا وكأنهم العالم كله، ومازال السوريون حتى الآن يدفعون ثمناً باهظا لقاء عدم استماعهم إلى تلك الأصوات، صداقة الغرب لا يؤمن لها.
التاريخ بات يكرر نفسه، لا يحتاج إلى عقود، بل خلال سنوات قليلة، ففي أوائل عام 2014، اقتطع بوتين أرضاً من دولة ذات سيادة، حين قام بغزو شبه جزيرة القرم وضمّها لروسيا.
وكان رد الفعل الأمريكي لا أكثر من إدانة كلامية. أما أكبر إدانة وجهت إليه، فكانت من وزير الخارجية آنذاك جون كيري قائلا لبوتين “إنك تتصرّف بأسلوب القرن التاسع عشر، كما لو أنك لست في القرن الحادي والعشرين”، أما العقاب فأصاب بعض الشخصيات الروسية، وتجميد الإدارة أصول حفنة من المسؤولين الحكوميين.
احتلت عناوين الصحف، دونما تأثير على حسابات بوتين المستقبلية التي لم يتأخر العمل على تنفيذها.
اليوم، في خضم الحرب، ما زالت روسيا ومعها أوكرانيا ومجموعة الحكومات الغربية يقدم كل منهم سردية مزيفة للحرب الحالية، تلائم المواقف المتخذة. أما السردية الحقيقة فيكتبها الأهالي الذين يغادرون الوطن تاركين وراءهم قتلاهم والخراب، وربما كأبسط ما يمكن ملاحظته حالياً، اقتناع الشعبين الروسي والأوكراني بصحة مواقف قادتهم، لكن الوقت قادم ليدركوا أنهم قد خدعوا بهما، فالحرب لم تكن ضرورية، وإذا كان من حسناتها أنها كاشفة للأكاذيب، ما سيحض على إعادة النظر في قادتهم السياسيين، ولا بد ستقودهم إلى محاسبة الحكومات الأوربية أيضاً.
اللافت أخيراً، أننا لا ندري بعد من يمشي على خطى من، الدكتاتور الروسي أم دكتاتورنا المحلي؟ أوكرانيا عاجلاً أو آجلاً، لن تقل عن سوريا المنكوبة.