د . ممدوح حمادة – الناس نيوز ::
الحرب مثلها مثل أي كائن على وجه البسيطة، لها عمر قد يطول ويقصر، ولكنه سينتهي حتماً في نهاية المطاف، ومن دون شك فإن الحرب التي لا تحسم عسكرياً وسياسياً لا يمكن اعتبارها منتهية، لأنها ستكون أشبه بالبركان القابل للانفجار في أي وقت، وعندما تتسنى له الفرصة سيعود وينفجر من جديد، مثل الحرب بين أرمينيا وأذربيجان مثلاً، حيث اندلعت هذه الحرب في بداية التسعينيات كإحدى تداعيات انهيار الاتحاد السوفييتي، ثم خمدت لأكثر من ربع قرن لتعود من جديد عندما تغيرت المعطيات السياسية والعسكرية وغيرها في عام 2022 .
ومع أن هذا البركان عاد للخمول نسبياً إلا أن الحرب لا يمكن اعتبارها منتهية، وإنما توقفت كانصياع للأمر الواقع، ولا بد أنها ستنشب من جديد عندما تتغير المعطيات مرة أخرى في صالح هذا أو ذاك من الطرفين المتحاربين، الحرب الروسية الأوكرانية كانت قبل التدخل المباشر لروسيا حرباً من هذا النوع حيث اندلعت بعد انتصار الثورة البرتقالية عام 2014، ولكنها كانت بين أطراف أوكرانية رغم الدعم الروسي غير المباشر للمقاطعات التي انفصلت عن أوكرانيا، تماما كالدعم الأوروبي الأمريكي لأوكرانيا حالياً، ولكن بعد التدخل الروسي المباشر ودخول القوات التابعة لوزارة الدفاع الروسية رسمياً، لم تعد هذه الحرب كذلك وإنما أصبحت صراع بقاء كل الاحتمالات فيها مفتوحة، عدا احتمال السلام، فالسلام بما تعنيه هذه الكلمة من معنى بالنسبة لأوكرانيا غير ممكن إلا بعودة الأراضي التي كانت ضمن الخريطة الأوكرانية، قبل 2014 للسيادة الأوكرانية .
أما في حال بقاء هذه المناطق خارج السيادة الأوكرانية فهذا يعني بالنسبة لأوكرانيا استسلاماً، وليس سلاماً بين طرفين متكافئين، ويعني فقدانها لهذه المناطق نهائياً، رغم أنها ستبقى ضمن إطار المناطق المتنازع عليها، وسيقتصر بقاؤها كمناطق أوكرانية على كتب ومناهج التاريخ، كما حصل في أمر لواء اسكندرون بالنسبة لسوريا، على سبيل المثال، لأن مرور الزمن يترافق مع التغيير الديموغرافي الذي يجعل حل مثل هذه النزاعات وتغيير المعطيات الناجمة عنها مجدداً أمراً شبه مستحيل، إلا ضمن صراع دولي كحرب عالمية مثلاً يخضع الطرف المهزوم فيها لجميع الشروط التي تملى عليه، وإذا عادت هذه المناطق إلى خريطة أوكرانيا فهذا يعني أن روسيا قد استسلمت ولم تبرم السلام .
ذلك يعني تخليها عن مناطق أصبحت تعتبرها جزءاً منها، ويعني أنها فقدت القوة العسكرية اللازمة للاحتفاظ بهذه المناطق، فهي لا يمكن أن تتخلى عنها إلا على إثر هزيمة عسكرية، وأوكرانيا بطبيعة الحال لن تستسلم ما دامت تملك رمقاً تقاوم فيه، وهذا الرمق سيبقى متوفراً طالما أن الدعم غير المحدود من قبل أمريكا والغرب موجود، وروسيا من ناحيتها لن تتخلى عن هذه المناطق ما دامت تملك نفساً يسمح لها بالتمسك بها، لأن تخليها عنها قد يعني انهياراً للاتحاد الروسي، يشبه الانهيار الذي حل بالاتحاد السوفييتي، بعد خروجه من أفغانستان، فالكثير من الجمهوريات أو على الأقل الكثير من الحركات القومية الطامحة للاستقلال بدأت تطل برأسها بعد فقدان القوات الروسية لمنطقة (خيرسون) وظهور بوادر خسارة عسكرية لروسيا في الأفق .
لذلك طالما روسيا تملك قوة عسكرية واقتصاداً يمكنها من متابعة الحرب فإنها ستبذل جهدها لكي لا تتعرض لهزيمة فيها، وبالتالي فإن أي معاهدة (سلام) من المستحيل أن تحدث إلا بعد انتصار عسكري ساحق من قبل أحد الطرفين على الطرف الآخر، وهذا بدوره غير وارد على المدى المنظور فكلا الطرفين ما يزالان يملكان القدرة على الاستمرار في الحرب لفترة طويلة، فما هي احتمالات النهاية لهذه الحرب؟ ولنأخذ أولاً احتمال انتصار أحد الطرفين والفرضية المرجحة أكثر هي انتصار الروس برغم المقاومة الأوكرانية الشرسة .
ولكن هذا يكاد يكون مستبعداً بسبب الدعم الغربي، وربما التدخل غير المباشر من الغرب، وأمريكا أما الفرضية الثانية الأقل احتمالاً فهي انتصار الأوكران، وهذا لن يتم بدون الدعم الغربي الذي تحدثنا عنه، ولكن هل هذا الدعم سيرقى لدرجة تتمكن فيها أوكرانيا من هزيمة روسيا؟ وهل هو من أجل انتصار أوكرانيا أصلاً أم أن الهدف منه هو إعطاء أوكرانيا من السلاح ما يمكنها من المقاومة فقط، واستنزاف وإرهاق روسيا؟ لا يبدو أن هذا الدعم يتعدى ذلك، لأنه لا يمكّن أوكرانيا من التفوق، فهو دعم يكفي للمقاومة وتحقيق بعض الانتصارات النسبية التي ترفع الحالة المعنوية، ومن هنا يمكن القول أن الانتصار الساحق الذي يمكن أحد الطرفين من فرض شروطه مستبعد في ظل الظروف وموازين القوى الحالية، إنه ممكن في حالتين فقط، الأولى إذا قامت أوروبا تحت ضغط الأزمات الاقتصادية المنبثقة عن هذه الحرب بالتخلي عن أوكرانيا، وبالتالي جعلها لقمة سائغة للجيش الروسي، وإجبار أوكرانيا على اتفاقية إذعان تنهي الحرب، مع بقاء الأوضاع على حالها الآن، وربما تشكيل حكومة موالية لموسكو، أما الثانية فهي انقلاب داخل الكرملين تحت ضغط الخسائر الكبيرة للجيش الروسي، والخسائر التي يمنى بها الاقتصاد الروسي، أضف إلى ذلك الارتباك الاجتماعي الذي تحدثه موجات الاستدعاء لأداء الخدمة العسكرية على الشباب الروس، ولجوء الكثيرين منهم للهجرة أو التخفي ضمن روسيا، هذه الحرب التي يبدو أنه أشبه بنقلة على رقعة الشطرنج ستقابلها نقلة أخرى إلى مرحلة أخرى منها أوسع وأكثر عنفاً، فروسيا عندما تشعر بالوجع نتيجة الدعم الأوربي ربما تنقل هذه الحرب لتجعلها تمتد الى أوروبا، وهذا هو الذي سيحدث على الأرجح، ويمكن أن يحدث ذلك أولاً عبر استهداف الشحنات وجعل النقل الجوي والبري مجالاً غير آمن ليتطور إلى اشتباكات، محدودة تتوسع تدريجياً لنجد أنفسنا في أتون حرب عالمية جديدة، طبعا يمكن لأوروبا في نهاية المطاف أن تتخلى عن أوكرانيا في حال وصلت الأمور إلى شفير الهاوية، ولكن طالما أن الحرب تقتصر رحاها على الأراضي الأوكرانية، وتقتصر التضحيات البشرية فيها على العنصر الأوكراني فإن أوروبا بدفع من الولايات المتحدة ستتابع دعمها بنفس الطريقة الحالية، لاستنزاف روسيا وإنهاكها، ولكن بقاء حال الصراع في هذا السيناريو على ما هو عليه أمر مستبعد، باختصار يمكن القول إننا أمام مجموعة احتمالات منها تخلي الغرب عن أوكرانيا، وهذا أمر ممكن حدوثه في حال تجاوزت خسائر الغرب في هذه الحرب الحد المسموح به، الثانية حدوث تغيير في روسيا لنفس السبب أي تجاوز الخسائر الحد المسموح به أو القابل للتحمل، والثالث أن تتوقف الحرب وتعود لحالة الخمول لتندلع من جديد بعد عدة سنوات، عندما تصبح هناك معطيات جديدة تخول الأوكران بفتح جبهة من أجل استعادة ما فقدته، أو روسيا بفعل ذلك تحت أي ذريعة كانت، ومن الممكن أن يتم الاتفاق على مفاوضات ماراثونية تمتد لأعوام طويلة يتم الاتفاق بعدها على صيغة جديدة تحفظ ماء الوجه للطرفين، مثل إجراء استفتاء يمنح المناطق التي انفصلت عن أوكرانيا وضعاً خاصاً، كحكم ذاتي مثلاً، والاحتفاظ بعلاقة مميزة مع روسيا، أو ما شابه، وهكذا تعود هذه المناطق شكلياً إلى السيادة الأوكرانية، وتبقى عملياً مرتبطة بروسيا، ولكن هذا يبقى تصوراً يشوبه التفاؤل، أما الفرضية الأبشع والأقرب إلى الواقع، فهي تورط دول أخرى في الحرب تكفي لكي نسميها حرباً عالمية، فهذه الحرب نشبت ليس من أجل تسوية نزاع حدودي بين بلدين، هذه الحرب نشبت من أجل إحداث تغيير في النظام العالمي سياسياً واقتصادياً، وما لم يتحقق هذا التغيير فإن الحرب مرشحة للتطور نحو الأسوأ، وبالتالي حدوث ما يخشى العالم الآن حدوثة وهو استخدام السلاح النووي.