د . أمير سعادة – الناس نيوز ::
اختلفت الآراء، بين مؤيد ومعارض حول قرار الرئيس سعد الحريري اعتزال العمل السياسي في لبنان. الرجل قرر الابتعاد قبل تجاوز الثانية والخمسين من عمره، أي أنه لا يزال قادراً على العطاء، جسدياً وسياسياً، وقد أوعز هذا القرار إلى عدة أمور، منها “اهتراء الدولة”، والشحن الطائفي وهيمنة حزب الله على الحياة السياسية في لبنان.
البعض اعتبر أن خطابه الأخير كان هو الأنجح في مسيرته السياسية منذ سنة 2005، من حيث المضمون والشكل، والأخرين قالوا إنه جاء متأخراً جداً، وأن السبب الحقيقي وراءه ليس صحوة ضمير بل هو ناتج عن إفلاس مالي وإغلاق أبواب السعودية في وجهه.
وذهب البعض للقول إنه كان يحاول استعادة تجربة الرئيس جمال عبد الناصر، عندما أعلن عن تنازله عن رئاسة مصر بعد هزيمة عام 1967، لتخرج الجماهير الحاشدة في القاهرة وغيرها من المدن العربية مطالبة ببقائه (وهو ما لم يحصل مع الحريري في لبنان).
ولكن أهم ما جاء في خطاب الحريري هو قرار اعتزال العمل السياسي طوعياً، وهي خطوة جريئة لم يشهدها أبناء هذا الجيل من قبل، الذي اعتاد على الزعماء العرب أن يبقوا في مناصبهم حتى الممات، أو إلى حين الإطاحة بهم بالقوة.
في هذه البلاد، كان العقيد معمر القذافي وهو من تولد سنة 1942، وقد حكم الجماهيرية الليبية طيلة 42 سنة (1969-2011). وفي مصر، عبد الناصر من تولد 1918، وقد حكم مصر 18 سنة (1952-1970). أما في سوريا، فحافظ الأسد كان من تولد 1930، وقد حكم سوريا 30 سنة (1970-2000).
فكم سنة كان من المفترض لسعد الحريري أن يبقى زعيماً على سنّة لبنان، وهو تولد عام 1970؟
في قصر بعبدا بلبنان يوجد رئيس جمهورية اقترب من العقد التاسع من عمره، وبدلاً من الاعتزال والتقاعد، هو يفكر جدياً إمّا في تمديد ولاياته أو بتوريث الحكم إلى صهره الفاسد ، أداة حزب الله الإيراني الارهابي .
وفي قصر التينة رئيس مجلس نواب عمره 84 سنة ، فاسد ومليشاوي ، لا يزال متمسكاً بمنصبه منذ سنة 1992 ويرفض أن ينازعه عليه أحد. نبيه بري بدأ حياته السياسية في السبعينيات، رئيساً لميليشيا حركة أمل الشيعية ، وميشيل عون ضابطاً ماروني في الجيش ثم رئيساً له، قبل أن يصبح رئيساً للحكومة سنة 1988، ثم رئيساً للتيار الوطني الحر ، ويوصف بان لديه مرض مزمن أسمه كرسي السلطة ، أسوة بزميله بشار الأسد الذي رفع شعار ” الأسد أو نحرق البلد ” والسؤال هنا ماذا يختلف هؤلاء الحكام عن القاعدة والتنظيمات الارهابية من حيث التمسك بالخلافة الأصولية سواء رضي الناس أو رفضوا ، قال أرسطو ذات مرة ان الديكتاتورية تختلف بالوجوه وتتفق في المضمون والأسلوب .
خمسون سنة من المكاسب والمناصب والجاه لم تكفي هؤلاء، ولم تشبع غريزتهم وطموحهم. وفي منطقة كليمنصو برأس بيروت يجلس زعيم أكبر حزب درزي في لبنان، عمره 74 سنة ، وقد ورث الزعامة عن والده سنة 1977 وهو الآن يقوم بتوريثها لابنه.
في ضاحية بيروت الجنوبية يحتفل الارهابي حسن نصر الله قريباً بالذكرى الثلاثين لتوليه الأمانة لعصابته التي حرقت ، فكرة المقاومة النبيلة ، التي ورثها عن عباس الموسوي سنة 1994، حيث تبين ان هدفهم الحقيقي إقامة نظام ولاية الفقيه والهلال الايراني الشيعي .
وقبلهم كان الرئيس كميل شمعون، الذي بدأ حياته السياسية في الأربعينيات وظلّ متمسكاً بها حتى بعد خروجه من رئاسة الجمهورية سنة 1958، حيث قبل أن يكون وزيراً في سن الشيخوخة، لكيلا يأفل نجمه.
ناهيك عن زعماء الاحزاب الدينية أو التي تقدم نفسها علمانية مدنية ، على سبيل المثال لا الحصر ، أسعد حردان هو ” الرئيس ” المتنفذ البلطجي في الحزب السوري القومي الاجتماعي منذ عقود ، كذلك خالد بكداش في الحزب الشيوعي السوري ، لينين محنطاً ،،، ويمكن تعداد آلاف الشخصيات .
جميع هؤلاء لم يفكروا بالتقاعد أو بالاعتزال، وكان آخر قرار اعتزال سياسي عرفه لبنان هو ابتعاد ريمون أده (رئيس الكتلة الدستورية) والرئيس صائب سلام عن المسرح السياسي، في زمن الحرب الأهلية، طوعاً وبملء إرادتهم.
ريمون أده اعتزل العمل السياسي في نهاية السبعينيات وعاش متقاعداً في فرنسا حتى وفاته سنة 2000، وكذلك فعل الرئيس سلام منذ سنة 1985، وهو وريث عائلة عريقة عملت في السياسة منذ زمن العثمانيين .
كلاهما أدرك أن قواعد السياسة قد تغيرت في بلاده، وباتت لا تشبههم ولا تليق بماضيهم الوطني. فقد رفضوا الانصياع، لا إلى أمراء السعودية ولا إلى ملالي إيران أو إلى أوامر الوالي الجديد، المجرم غازي كنعان ونظامه الأسدي السفاح .
ويندرج هذا التمسك بالمنصب وبالزعامة على معظم قادة العالم العربي. في فلسطين، يقبع محمود عباس في الرئاسة الأولى منذ سنة 2005، على الرغم من انتهاء ولاياته منذ سنة 2009.
في شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، يطفئ الرئيس عباس (أبو مازن) شمعته السابعة والثمانين، وهو لم يسمّي خليفة له، ولا نائباً لرئيس السلطة الوطنية، ولا يزال متردداً في الدعوة إلى انتخابات رئاسية (التي كان من المفترض أن تجري قبل عام).
وفي مصر يعتبر الرئيس عبد الفتاح السيسي حديث العهد نسبياً بالمقارنة مع أقرانه ، حسني مبارك، الذي لم يُثنِه تقدمه في العمر عن تجديد ولايته مرات ومرات، كما لم تثنه ثورة 25 يناير التي انفجرت في وجهه سنة 2011، بل قرر مواجهتها وقال كلمته الشهيرة: “سأبقى رئيساً لمصر”، متحدياً أصوات المتظاهرين في ميدان التحرير وهم يهتفون “ارحل!” ولكن هذه الثورة كانت أقوى منه، وقد أدت إلى تدخل المؤسسة العسكرية التي فرضت استقالة مبارك في 11 فبراير/شباط 2011.
لولا قرار المجلس العسكري يومها، لبقي حسني مبارك في منصبه حتى وفاته عام 2020، ضارباً بعرض الحائط مصير البلاد والعباد .
والحال ذاته في سوريا طبعاً التي لم تعرف اعتزالاً سياسياً في تاريخها الطويل، باستثناء قرار الرئيس جميل مردم بك الصادم سنة 1948.
كان مردم بك آخر سياسي سوري يصدر بيان معلناً فيه الاعتزال السياسي، وهو في الثالثة والخمسين من عمره، بعد تجربة حافلة استمرت منذ مطلع القرن، وقد أوصلته إلى سدة الحكومة عدة مرات.
وقد جاء هذا القرار بعد هزيمة عام 1948، عندما أدرك مردم بك أنه لن يتمكن من العمل في محيط عربي منقسم، وفي ظلّ تمادي العسكر وطموحاتهم.
حتى اليوم لا نعرف بالتحديد السبب الحقيقي وراء قرار جميل مردم بك، ولكن مما لا شك فيه أنه كان قراراً صائباً، فقد جنبه الاعتقال والمهانة الذي جاء على يد العسكر منذ وقوع الانقلاب الأول سنة 1949، وطال الكثير من رفاقه القدامى، من أمثال شكري القوتلي وخالد العظم وغيرهم من الزعماء السوريين.
كل هؤلاء لم يفهموا الدرس كما فهمه مردم بك، وظلّوا متمسكين بزعاماتهم لغاية إقصائهم عنها بالقوة، بداية في عهد عبد الناصر ومن ثم على يد البعث.
ومن بعد انقلاب 8 مارس/آذار 1963، أجبروا جميعاً على التقاعد، بعد أن فرض عليهم البعثيون عزلاً مدنياً منعهم من ممارسة العمل السياسي في سوريا.
وفي العراق الأمر كذلك ، لا سيما بعد مرحلة الانقلابات واستلام البعث مقاليد السلطة الفتاكة ، ناهيك عن الجزائر وتونس … .
لكل هذا الأسباب، يجب التوقف عند قرار سعد الحريري والنظر إليه من منطلق تاريخي. في جردة حساب، قال الحريري أنه نجح في تجنيب البلاد حرباً أهلية ولكنه فشل في تأمين حياة كريمة لأبنائه.
وبذلك يكون قد دخل التاريخ مرتين، لقرار الاعتزال أولاً ولاعترافه بأخطائه ثانياً، والبوح بفشله أمام وسائل الإعلام.
اذن لا توجد في الحياة السياسية والعسكرية العربية ، ثقافة الاعتراف أو الاعتذار علناً ، لا توجد ثقافة التنحي أو التنازل للوطن أو الشعب ، لا توجد ثقافة الشفافية التي تسهم في صناعة التنمية وتصنع مستقبل الأوطان والشعوب ، وترسخ سيادة القانون واحترام الدستور إلخ …
نحن نعيش في بلاد لا يخطئ فيها الزعيم أبداً، لا يخطئ ولا يحاسب ولا يتنازل أبداً، لا عن مناصبه أو عن زعامته، حتى لو كان بقاؤه على حساب ملايين الأبرياء الذين آمنوا به وصوتوا لأجله، وفي بعض الأحيان، ماتوا من أجله.