لميس الزين – الناس نيوز ::
زوبعة من الجدل أثيرت في فضاءات الدراما والإعلام حول تصريح خرج به كاتب سوري اشتبه في انتحال نصٍّ له استُخدم كمادة أساسيّة لمسلسل يُعرض باسم آخر. الكاتب أقرَّ أنه تقاضى حقوقه الماديّة كاملة، لكنّه شعر بالغمط وهو يرى اسماً آخر يخطف الضوء والشهرة لما يعتقد أنه من نتاج أفكاره، جدلٌ بدهيّ لكنها تبقى قضيّة فرديّة سرعان ما ستنجلي ملابساتها وتُحسَم لصالح أحد الطرفين.
فما هو مفهوم الملكيّة الفكريّة، وهل كانت الحقوق الفكريّة لهذا الكاتب، بافتراض أنه محقٌ في ما ذهب إليه، هي الحقوق الوحيدة الضائعة في ثنائية صنّاع الدراما ومشاهديها؟
الملكيَّة الفكريَّة هي النتاج الإبداعي لفكر الإنسان، مثل الاختراعات والنماذج الصناعية والعلامات التجارية والأغاني والكتب، وهي تمكّن المالك من منع الاَخرين من التعامل في ملكه دون الحصول على إذن مسبق منه.
كما يحقّ له مقاضاتهم في حال التعدّي على حقوقه والمطالبة بوقف التعدّي والتعويض عمّا أصابه من ضرر، فكيف نشأت؟
تكرّرت سرقة الإبداع الفكري عبر التاريخ، ففي مجال الأدب على سبيل المثال اتُّهمت أسماء كبيرة بالسرقة والانتحال مثل شكسبير، تي إس إليوت، فيرجيل، وصولا إلى البريطانية المعاصرة جي كي رولينغ مؤلفة سلسلة هاري بوتر، وشهدت الأوساط الفكرية والأدبية والفنية نزاعات بين مالكي الإبداع ومنتحليه، فأدركت عدة بلدان ضرورة وضع قوانين تنظِّم الملكيّة الفكريّة، فكانت اتفاقيّة “بِرن” 1886 لحماية المصنّفات الأدبيّة والفنيّة.
حدَّتْ الاتفاقية الدولية، والقوانين التي تفرَّعت عنها حول العالم، من السرقات الصريحة لكنّها عجزت عن حماية الحقوق الفكريّة من الانتحال الجزئي والالتفاف والتحايل والتحوّير والاقتباس بدعوى تشابه الأفكار، بل لعلّها دفعت المنتهكين لابتداع طرق ملتوية وأساليب مضلّلة للالتفاف على محاكاة الأصل، فبقيت الكثير من القضايا عالقة لتعذّر إثبات الانتهاك.
ومن طريف ما يُذكر في تاريخ النزاعات حول الحقوق الفكريّة حادثة وقعت عام 2011 عندما كان أحد المصورين البريطانيين يلتقط صورا في أندونيسيا، فقفز أحد قرود المكَّاك واختطف كاميرا المصور والتقط لنفسه صوراً. نَشرت مؤسسة ويكيميديا Wikimedia فيما بعد هذه الصور ونالت بها شهرة واسعة أثارت حنق المصوّر، ونشب نزاع قضائي على حقوق ملكية الصور بينه وبين ويكيميديا، انتهى بالحكم أن صور القرد التي التقطها بنفسه ليست لها حقوق ملكية لأن من قام بالتقاطها ليس بشرياً وإنما حيوان لا يتمتع بشخصيّة قانونيّة.
ليأتي مؤخراً تسجيل فؤاد حميرة والذي أعلن فيه أن مسلسل كسر عضم مأخوذ من نصه حياة مالحة. البعض فسَّر ادعاءه بأنه محاولة للتسلق على مسلسل ناجح، فكيف نجح المسلسل وسط سقوط مستمر لكثير مما يعرض على الشاشة الصغيرة في رمضان منذ سنوات؟
حري بالاعتراف بداية أن الدراما التلفزيونية، ورغم اعتراضات عريضة ندّدت بتحويل شهر العبادة إلى ماراثون فني، استطاعت فرض حضورها في رمضان خلال العقدين الأخيرين.
حضور عزّزته الأزمات المتلاحقة التي أنهكت المواطن السوري، آخرها الأزمة الاقتصاديّة التي جرّدته من القدرة على إقامة طقوس اجتماعية دأب على ممارستها بدعوة الأهل والأصحاب في شهر الصيام، وصار عاجزاً عن مجاراتها.
لتبقى الشاشة الصغيرة بما تقدّمه القنوات المحليّة والعربيّة الترفيه الوحيد المتاح له، ضمن ما تجود به الإطلالات الخجولة للكهرباء، لكنه غالبا لن يجد إلا المزيد من الغثاء.
فمن كوميديا تجترّ أسباب الابتسام بإعادة تشكيل لوحات مكرورة الأفكار، فتعمَد لإطالة اللوحة الكوميدية شدّاً ومطّاً لأسباب إنتاجيّة، فتفسد عنصر النكتة المبتغاة، في وقت يكتسح فيه مقدمو المحتوى الفكاهي على الشبكة اهتمام الملايين، ناهيك عن عشرات المقاطعات لإعلانات تجاريّة لا تخلو من فجاجة في طريقة الإخراج والعرض.
تأتي بعدها فقرة المسابقات، أسئلة ساذجة مرفقة بالإجابات، ومتسابق لا تزيد معلوماته في الغالب عن احتياجات سيتكفّل بها مبلغ سيفوز به حُكماً، فليس المطلوب هنا ثقافة ولا تحصيلا، كل ما عليك هو الاتصال وإرسال الرسائل مدفوعة الأجر سلفاً، لتبقى شركات الاتصالات فائزاً وحيداً.
مسلسلات البيئة الشاميّة ملّها التكرار فصارت طبقاً يوميّاً مفروضاً وممجوجاً لكنه يتصدّر المائدة يوميّاً أحببت أم لم تحبّ، أحداث متشابهة وشخصيات مقولبة يَشِي معظمها بالجهل، وعادات بالية تمّ نقلها من الهامش إلى الصدارة إحياءً وصقلاً وترسيخاً، ما يدفعك كمشاهد للتساؤل: مَنْ وراء هذا التلقيم المزوّر للتاريخ؟ هل هذه حقاً دمشق الخمسينات، دمشق الحضارة والأدب والشعر؟ ولماذا التركيز على دمشق فيما لكلِّ محافظة سورية تراث غنيّ يميزها؟
واستجابة لتساؤلاتك يخرج عليك المنتجون هذا العام بتحديث لما يفرضون أنه البيئة الشاميّة، مسلسل باسم جوقة عزيزة لتنتقل من ردح فريال باب الحارة إلى ردح الراقصة عزيزة، بفارق وحيد هو علكة في الفم أثناء الردح، وكأن تاريخ دمشق الحديث يراوح بين هذين النموذجين.
أما على صعيد الدراما المعاصرة، فقد أثبتت بضع مسلسلات حضورها، وتقبُّل المشاهد لها كقضايا تلامس جوانب من وجعه، وعلى رأسها كسر عضم، المسلسل محل النزاع، الذي عرّى الفساد المستشري في مفاصل السُلطة بطريقة صادمة، وبقدر غير مسبوق من حريّة التعبير حتى قيل إنه يندرج ضمن الدراما التنفيسية التي تهدف لامتصاص نقمة السوريين كما كان يُفعَل سابقاً بعروض كوميدية تفرّد بها دريد لحام.
المسلسل بمشاهده الجارحة آلم النفوس المنهَكة، فلم يستطع البعض متابعة قصصه الخادشة للأرواح وليس للحياء.
فإذا ما انتقل المشاهد إلى محطات عربية بحثاً عما يخفّف ثِقلَ المَحَليّات فهو أمام خيارين، إما دراما عربية تناقش قضايا بعيدة عن اهتماماته وبلهجة يستعصي فهمها على من لم يختبر الحياة في الخليج، أو برنامج رامز الذي استطاع بقوةِ ضخِّ رأس المال الاستمرارَ لسنوات رغم الإجماع على تفاهة المحتوى، حيث الصراخ والبعيق، وتلفيق عنصر المفاجأة والسخرية الممنهجة من الضيوف، لترى بأمِّ عينك تقبّل الجميع للإذلال، بمن فيهم لهذا العام أحد نجوم هوليوود، مقابل أجورٍ تُدفع بالعملة الصعبة، مرسِّخا قاعدة لاأخلاقيّة مفادها أنه لم يعدْ هناك ما لا يمكن شراؤه بالمال.
ختاماً يحق لنا أن نتساءل: إن حُسِمَ النزاع في قضيّة مسلسل كسر عضم وتمَّ تعويض فؤاد حميرة عن حقوقه المنتهكة، في حال ثبوتها، فمن يعوّض ملايين المشاهدين في وطننا وعلى امتداد الساحة العربية عن التلوُّث السمعي والبصري الذي أصابنا؟ أم أنّ ذائقة المشاهد العربي ليست لها حقوق ملكيّة تمكّنُه من المطالبة بها لأن من قام بانتهاكها ليس بشريّا.. تماما كقرد ويكيميديا؟!