صنع البشر القيم تأسيساً على مبدأ الاعتراف بالآخر والحفاظ عليه واحترام حقه. وما كانوا ليصنعوا ذلك لولا خبرتهم العملية بالنزعة العدوانية القارّة في النفس البشرية، والتي دفعت فرويد للحديث عن غريزة العدوان وغريزة الحب بوصفهما غريزتين فطريتين.
لقد انفصلت القيم وصارت عالماً مستقلاً عن البشر، عالماً آمراً، وصار الآمر الأخلاقي سلطة إلزام. وصار مدح الشخص ليس سوى مدح القيم التي هو عليها. وهذا يعني مدح القيم وليس مدح الشخص، وبالمقابل فإن هجاء الشخص وذمه ليس سوى هجاء خرق القيم وذمّه.
ثم صاغوا -دفعاً لأي لبس- جدولين متناقضين؛ جدول للقيم الإيجابية، وجدول للقيم السلبية، وتحددت معايير الحكم على سلوك الأفراد وفق هذين الجدولين. ونشأت الثنائيات القيمية: كرم-بخل، حب -كره، تسامح-حقد، صدق-كذب، وفاء خيانة، وهكذا.
ولما كانت المؤسسة الاجتماعية لا تستطيع بسلطتها المعنوية أن تحمل الناس على ممارسة القيم الإيجابية ومنعهم من ارتكاب نقائضها؛ أسست الدولة دائرة الحفاظ على الحق، وسنّت عقوبات الاعتداء على الحق.
وهكذا صار لدينا سلطتان قامعتان للاعتداء على الآخر؛ سلطة معنوية هي المجتمع وعقوباتها معنوية، وسلطة مادية هي مؤسسة الدولة المرتبطة بالحق وعقوباتها مادية، تبدأ من الغرامة مروراً بالسجن وانتهاءً بعقوبة الإعدام التي ألغتها دول كثيرة.
ولكي يعزّز الإنسان من قوة القيم الإيجابية وشرف الالتزام بها، وذمّ القيم السلبية ووضاعة من يسلك وفقها؛ قَدَّ مفهومين صارمين جداً، وهما مفهوم الخير والشرّ.
فالخير ما يعود بالخير على الآخر، والشرّ ما يعود بالشرّ على الآخر أيضاً. فالسرقة شرّ لأنها تسلب حق الآخر، والاغتصاب شرّ لأنه يعتدي على جسد الآخر، والوفاء خير لأنه احترام لعطاء الآخر.
وبالرغم من قدم هاتين السلطتين واستمرارهما؛ فإن التزام الإنسان بعالم القيم الإيجابية لم يمنعه من خرقها. إنه يخرقها وهو يعلم العقوبة التي تترتّب عليها فيما لو انكشف أمره. سواء كانت العقوبة المعنوية أو العقوبة المادية.
ويبقى السؤال قائماً: ما الذي يحمل الإنسان على الاعتداء على الآخر، حتى لو لم يكن له مصلحة مباشرة أو غير مباشرة في هذا الاعتداء؟
أعتقد شبه جازم أن هناك أربعة أنواع من الضعف تحمل الإنسان على الاعتداء، أو قل تضعف موقفه من الآخر، هذا إذا سلّمنا مع عالِم التحليل النفسي فرويد بأن غريزة التدمير غريزة أصلية في البنية النفسية -البيولوجية للإنسان.
أولاً: ضعف ثقافة الاعتراف بالآخر، ومردّها إلى غياب الشخص-الفرد في ثقافة تقوم على مبدأ القطيع. والثقافة تتكون عبر تاريخ طويل. ولهذا نجد أن الوازع الديني الذي من شأنه أن يمنع الإنسان من الاعتداء على حق الآخر؛ لا يفعل فعله في ثقافة لا تعترف بالفرد.
ثانياً: عدم انتصار فكرة الالتزام بالواجب الوضعي المُعبَّر عنه بالقانون، ففي الدول التي تخضع لخرق القانون من قبل المسؤولين عن صياغة القانون وتنفيذه وصونه؛ تعمّ أخلاق خرق الواجب، ويصبح الخرق هذا من طبيعة الأمور.
ثالثاً: إن عالم الصراعات السياسية، والصراعات الإيديولوجية الدينية والدنيوية، يعزز من قدرة البشر على الاعتداء على الآخر المختلف. وهذا الاعتداء ثمرة عدم الاعتراف بالحق.
رابعاً: الدكتاتورية، تنفي الدكتاتورية الآخر، وتسلبه وعيه بالكرامة، وتعمّم ثقافة السلب هذه عبر أدوات قمعها المتعددة. وربما كانت الدكتاتورية الأسدية أشنع أنواع الدكتاتورية التي شهدها تاريخ الدكتاتوريات من حيث سلب الحق، ونفي وجود الآخر. وإذا ما علمنا بأن نصف قرن من تحطيم العلاقات المعشرية قد مرت على وجود هذه الدكتاتورية؛ فإن تعميم أخلاقها في نفي الأخر قد ولد انحطاطاً شبه كلي لأخلاق الخير الإيجابية. وهذا الذي يفسّر مستوى العنف التدميري للبشر والحجر الذي تمّ حتى الآن.
أحمد برقاوي