ممدوح حمادة
أمضى أبو كرم زهرة حياته سائق دبابة في الجيش، ولأن عائلته كانت تتنقل معه حيث يؤدي خدمته فإن زياراته إلى القرية كانت قليلة جدا، ويمكن القول إنه لم يكن يحضر إلا في المناسبات التي لا يستطيع التخلف عنها كالأعراس والجنازات، وكان دائما يحضر بزيه العسكري ويشعر في نظرات الجميع الموجهة إليه بشي من الهيبة التي يضفيها عليه ذلك الزي، وهذا ما كان يجعله يشعر بشيء من التميز على سكان القرية أيضا، وبلغت تلك الهيبة أقصى درجاتها عندما حصل أبو كرم على رتبة المساعد حيث علقت له على كتفيه لوحتان خضراوان أصبح يرى العالم من فوقهما وكأنه يقف على شرفة مرتفعة.
ولكن بعد خروجه إلى التقاعد وعودته للعيش في قريته بدأت تلك الهيبة تتلاشى بشكل متسارع لدرجة أنه في غضون سنة لم يعد لها وجود، فقد اكتشف أبو كرم أنه براتبه التقاعدي، أفقر سكان القرية على الإطلاق، ففي كل بيت يدخله كانت تواجهه السجادات الفاخرة المفروشة على الأرض ببذخ لم يصادف مثله، وفي كل بيت كانت الأجهزة الكهربائية متوفرة بكثرة، فلا يخلو بيت من جهاز تلفزيون بشاشة كبيرة، وجهاز فيديو ودي في دي، وآلة تسجيل حديثة تستقبل أشرطة كاسيت وأقراص سي دي، عداك عن الغسالات الأوتوماتيكية والبرادات الشاهقة والمكيفات وكل ما يخطر في بالك من وسائل الرفاهية.
هذه الفوارق الطبقية بينه وبين الباقين ولّدت في نفسه مع الزمن شعورا بالحزن والحسد، ثم بالازدراء تجاه نفسه، وبالخجل من زوجته التي كان يعتقد أن جميع نساء القرية يحسدنها لأنها زوجته، أما الأولاد، فقد حمد الله وشكره لأنهم بقوا في البيت الذي كان يستأجره في حي الأكراد على سفح جبل قاسيون، منهم من يعمل ومنهم من يدرس، ومنهم من يكش الذباب كما كان يحلو له التعبير للدلالة على البطالة، وأكثر سؤال كان يحيره، هو من أين يأتي هؤلاء بكل هذه الأموال ليبذخوا كل هذا البذخ، فلديه من الأراضي مثل ما لديهم، ويبيع من المحصول مثل الذي يبيعونه، ولكنه بخلافهم لا يتبقى معه قرش واحد بعد العشرة الأوائل من كل شهر، وعندما شرح صدره لزوجته، عثرت هذه على السبب فورا متهمة إياه بالإسراف، ولكنه استبعد كليا أن يكون إسرافه سبب فقره، فالجميع في القرية ينفقون من الأموال في كل شهر ما يعادل مجموع راتبه التقاعدي في العام كله، عندها عثرت له زوجته على سبب آخر لفقره:
– لا بد أن الله يرزقهم ولا يرزقك.
– ولماذا يفعل ذلك، في حياتي لم أسرق ولم أزنِ ولم أتعاطَ أي نوع مما حرمه الله، حتى النميمة لم تجد لها طريقا إلى لساني.
ولأن كلمات زوجته بعثت في نفسه الحنق فقد قال بصوت غاضب بعد أن صمت قليلا
– نوعا عن كل سكان القرية، أنا الوحيد الذي يمكن أن ينتمي إلى عباد الله الصالحين، فلماذا لا يرزقني؟
لم تعلق هي عندما رأت الغضب قد تسلل إلى ثنايا صوته، أما هو فقد خرج من المنزل شاعرا بالإهانة مما قالته زوجته، حيث وجد فيه نوعا من التشكيك بسلوكه وأخلاقه، ولمس سوء النية المبيت لديها.
ابن عمه موفق وضح له الصورة عندما صارحه أبو كرم متسائلا عن السر، فقال له:
– التهريب يا ابن عمي.. التهريب، من لا يعمل في التهريب هنا يموت من الجوع.
صفن أبو كرم وحسدهم في داخله على شجاعتهم، ثم تساءل:
– والجمارك؟
– الجمارك؟… عندما تقبض الجمارك على الحمير فلتحكم عليها بالسجن المؤبد.. أو حتى بالإعدام إذا أرادت.. سنعوض ما فقدناه في التهريبة التالية.
– وما شأن الحمير في ذلك؟
وشرح له موفق الطريقة، موضحا أن المهربين يحمّلون قوافل الحمير بالمهربات ويتركونها عند الحدود وهي بدورها تقوم بإيصال البضاعة أما نحن فنعبر الحدود ذهابا وإيابا عند النقطة فنعود لنجد الحمير في معظم الأحيان وقد سبقتنا إلى بيوتنا.
ذهل أبو كرم للسهولة التي يتم فيها الموضوع، وقرر أن يخوض غماره طالما أن المسؤولية كاملة تقع على الحمير، ولكن المشكلة الوحيدة التي وقفت عائقا في طريقه هي رأس المال الذي يفترض أن يوفره لكي يبدأ بنشاطه في هذا المجال، وفي صباح اليوم التالي ركب الباص المتوجه إلى المدينة وبدأ بالبحث عن زملائه الذين تقاعد معهم.
عثر أولا على زميل له وجد عملاً كسائق تاكسي في المدينة، ودار بينهما حديث عن صعوبة الحياة بعد الخروج على التقاعد واضطرارهم للعمل في مهن منها في بعض الأحيان ما هو وضيع، والذل الذي يتعرضون له بينما هم يجب أن يمضوا الوقت في الراحة والاستجمام بعد رحلتهم الطويلة مع الدبابات الفولاذية الثقيلة وجنازيرها الحديدية الضخمة، وفي نهاية المطاف شرح له قصة الحمير وحدثه عن النتائج المادية المذهلة لهذا العمل، ولم يكد أبو كرم ينهي كلامه حتى كان زميله السائق قد أقلع باتجاه البيت لكي يعطيه قرشه الأبيض الذي ادخره لليوم الأسود، وكان حجمه خمسة عشر ألف ليرة، عندها انتقل أبو كرم إلى زميل آخر شرح له أيضا قصة الحمير وحصل منه على مبلغ لا بأس به، وإن لم يكن بنفس حجم المبلغ السابق، وحتى المساء كان أبو كرم قد اجتمع مع حوالي عشرة من رفاق السلاح وحدثهم عن الحمير وتمكن من جمع مبلغ يقدر بمئة ألف ليرة، وهو مبلغ مناسب جدا لبداية العمل في المهنة.
ولم ينتظر أبو كرم طويلا، ففي صباح اليوم التالي كان عند النقطة الحدودية بين لبنان وسوريا وتوجه فورا إلى منطقة شبعا القريبة من قريته عند الحدود، وفي طريقه اشترى الحمير من سوق للطرش سأل عنه ودلوه عليه هناك، وكان عددها سبعة حمير، وفي شبعا التقى أبو كرم بالرجل الذي دله عليه ابن عمه موفق وهذا بدوره أمن له البضاعة فورا، فقام بتحميل ثلاثة من الحمير بالحديد، وحمل ثلاثة أخرى بكراتين الدخان من ستة ماركات أجنبية مختلفة، أما الحمار السابع فحمله بأجهزة كهربائية مختلفة، ثم صعد معه الرجل الذي من شبعا إلى رأس تلة هناك وأشار له إلى المنطقة التي يجب عليه فيها أن يطلق الحمير، وهذا ما فعله أبو كرم، حيث قاد الحمير إلى هناك ثم أطلقها وتوجه بدوره إلى النقطة الحدودية لكي يعود إلى القرية.
عند عودته، وقبل النقطة الحدودية بحوالي المئة متر، حيث انتشرت الدكاكين التي تبيع العابرين مختلف أنواع البضائع مد أبو كرم يده إلى جيب شرواله وأخرج النقود التي كانت هناك، وعدها فاكتشف أن بإمكانه أن يستفيد بعض الشيء، واشترى ثلاثة كروزات دخان دسها في أسفل شرواله ودخل إلى المركز الحدودي اللبناني ووقع الأوراق المطلوبة، ثم توجه إلى المركز الحدودي السوري، ولكن في الطريق مال أحد الكروزات الثلاثة واستقرت زاويته في نقطة ميتة من (محاشم) أبي كرم، إلا أن الوقت كان قد فات لإجراء أي تعديلات، فإن مد يده إلى أسفل الشروال ربما يثير الشكوك لدى رجال الجمارك الذين تعج بهم نقطة الحدود، عدا عن أن سلوكه هذا غير لائق بحضور أشخاص غرباء بينهم الكثير من النساء، والذين لن يفسروا ما تفعله يده في أسفل الشروال سوى تفسير واحد لا بد أنه سيثير مشاعر الآخرين ويسبب له توبيخا غير لائق به في أحسن الأحوال، ولذلك فقد أخذ أبو كرم يسير وينفض رجله اليمنى جانبا بشكل حاد، آملا أن تفلت زاوية كروز الدخان الحادة من تلك النقطة التي تكاد تنغرز فيها، ورغم أن ذلك لم يجد نفعا، بل كان يؤدي بعض الأحيان إلى ألم حاد في تلك المنطقة، إلا أن مشية أبي كرم لم تكن السبب الذي أثار شكوك رجل الجمارك الذي مر أمام عينيه على هذه النقطة الحدودية من هم أكثر من أبي كرم غرابة، الذي أثار الشكوك وجعله يطلب من أبي كرم أن يقف جانبا، هو شكل المكعب الذي اتخذه أسفل شروال أبي كرم، وبطبيعة الحال فقد اقتيد أبو كرم إلى الداخل وتم تفتيشه وعثر على الكروزات الثلاثة هناك وتم توقيفه للبت في أمره، ومن حسن حظه فقد أشفق عليه المناوب وتركه في حال سبيله بعد أن صادر الكروزات الثلاثة.
وصل أبو كرم إلى بيته قبيل الفجر بقليل، وأول ما فعله بعد أن أيقظ زوجته هو السؤال عن الحمير، هل وصلت أم لم تصل بعد، وعندما أخبرته زوجته بأن الحمير لم تصل بعد، شعر بقلق لم يشعر به عند توقيفه في النقطة الحدودية، وخرج إلى الخارج، صعد إلى السطح وبدأ يرصد المنطقة المحيطة بالمكان لعله يلمح حمارا هنا أو هناك، ولكن السكون كان يخيم على كل شيء.
وعندما أشرقت الشمس ورصد أبو كرم حركة وأصواتاً في منزل ابن عمه موفق، هرع إليه يسأله عن سبب عدم وصول الحمير حتى هذه اللحظة كونه خبيرا في هذا الأمر، أما موفق فلم يكن لديه سوى تفسير وحيد:
– لا بد أن دورية من الجمارك قد صادفت الحمير فاستولت عليها.
ووعده بالسؤال في مركز الجمارك عن ذلك، وبعد الظهر أخبره أن الجمارك لم تلق القبض على أي حمار وطلب من أبي كرم أن يروي له التفاصيل لعله يستطيع أن يخمن سبب عدم وصول الحمير.
وعند وصول أبي كرم إلى النقطة المتعلقة بشراء الحمير من سوق للدواب قرب شبعا، لم يتمالك موفق نفسه وانفجر بضحك هستيري شرح خلاله لابن عمه أن الحمير تعود إلى بيوت اصحابها، وبعد أن كادت تتفتق خاصرتاه من الضحك انهمرت دموعه، وهكذا فعل بقية سكان القرية الذين علموا بالموضوع، الجميع كانوا يضحكون، ما عدا شخص واحد كان يحبس دمعه وعويله عنوة لكي يحافظ على بقايا هيبة كاد ينساها، وكان يفكر بطريقة للحصول على قرض يعيد منه ما استدانه من زملائه المتقاعدين، وتجاهل التسمية التي أطلقها عليه البعض، (الحمار الثامن) لقناعته بأن فيها شيئاً من الصحة.