ريما بالي – الناس نيوز ::
الحكمة المعروفة، باتت تعنّ على بالي كثيراً هذه الأيام، وأكاد أتذكرها كل صباح وأنا أقلب صفحات الأنترنت، الحيطان دفاتر المجانين.
المجانين هم ذاتهم في كل العصور، لكن الكارثة أن الحيطان صارت اليوم إلكترونية، ما يعني زيادة هائلة في العدد، وسرعة وسهولة قصوى في الانتشار، الأمر الذي يقدم فرصاً ذهبية لمجانين هذا العصر، لم يكن يحلم بها مجانين العصور السابقة الذين قضوا حيواتهم يبثون جنونهم على ما تيسر أمامهم من جدران وسطوح حجرية أو خشبية وصخور وأشجار، وأحياناً، رمال شاطئ غدّار، لا يحفظ ما أتمن عليه إلا لبرهة من الزمن تكفي لانحسار موجة وهجوم أخرى.
الكاتب الإيطالي الفذ أمبيرتو إيكو قال: أدوات مثل تويتر وفيسبوك تمنح حق الكلام لفيالقٍ من الحمقى، ممّن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسبّبوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً، أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل… إنه غزو البُلهاء”.
بالرغم من كوني أوافق إيكو الرأي (مع التحفظ على المفهوم النسبي لمصطلح “البلهاء”، فمن أعده أبلهاً قد يكون ينبوع حكمة لشخص آخر وبالعكس، والفضاء الإلكتروني مفتوح لي وله)، فقد كنت دائماً ومازلت وسأبقى، ضد الرقابة والقيود على الفكر والنشر، ولكي أبقى وفية لموقفي، لن أصرخ مطالبة أصحاب السلطة والقرار بحجب تلك المواقع، ولن أتمنى زوال نعمة الإنترنت ولن أعتبرها نقمة وألعنها، وسأعد غزو البلهاء ذاك، مجرد ضريبة رفاهية، ضريبة باهظة نوعاً ما، قد تتناسب مع كمية الرفاهية التي أغدقها علينا هذا الاختراع المبارك.
لكنني في الوقت نفسه، وكنوع من المعاملة بالمثل، سأطلب منكم أن تدعوني من فضلكم أتحدث عن استيائي من بعض المنشورات التي تطاردني صباح مساء وتدهشني بسخافتها حد الغثيان، دعوني أعد هذا المقال حائطي، لأفرغ جنوني أنا الأخرى عليه، ففي النهاية كلنا مجانين، مع التمييز بين الجنون الحميد وذلك الخبيث، وآمل أن يكون خاصتي من النوع الأول.
لست أول من تكلم عنها، إعلامية مصرية تقدم برنامج في قناة معروفة والمفروض أنها محترمة، ومحتوى البرنامج: تقديس الرجل، وتحقير المرأة! فقط لا غير.
سمعت عنها شذرات من هنا وهناك، فدفعني الفضول للبحث والاكتشاف، عشرات المقاطع لها وعنها تتكرر يومياً على اليوتيوب والانستغرام والفيسبوك، لم أتوقف عند الموضوع كثيراً في البداية، إذ ظننت أنها ربما قدمت تصريحاً عابراً صدم البعض في أثناء تقديمها إحدى حلقات برنامجها، لكنني توقفت، وتوقفت طويلاً، لما اكتشفت أن الحلقات كلها، والبرنامج كله، يتمحور حول هذه الفكرة: فرعنة الرجل!
حسناً، أنا امرأة، نعم، لكنني لست من المتعصبات والمتطرفات في النسوية. نعم، أطالب بالمساواة في الحقوق والواجبات بين الرجل والمرأة، وبتكافؤ الفرص، في التعليم والعمل والتعبير عن الذات والإبداع، والاختلافات الجندرية برأيي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، ولكن بما لا ينقص أو يزيد من القيمة البشرية أو الفكرية لطرف على حساب الأخر، وبما لا يقلل من فرص أحد في الحرية والنمو والإبداع.
نعم أنا امرأة مؤمنة بالنساء، لكنني لست مع شيطنة الرجل وتقديس المرأة، وأدرك أن كل الجرائم التي ارتكبت وما تزال ترتكب بحق النساء من قبل الرجال، هي إفرازات التخلف والجهل والأمراض النفسية والمفاهيم السامة المتجذرة في عقليات بعض البشر (على اختلافهم الجندري)، رواسب قديمة يطول الحديث عنها، كرّسها التاريخ عبر سنواته الطويلة، في صراع على السلطة والسيطرة، تميل كفته غالباً نحو النوع الأقوى جسدياً.
وبالرغم من قناعتي تلك وعدم تعصبي، فقد أزعجني (بعد أن أضحكني) المحتوى الذي تقدمه تلك الإعلامية المشبوهة والذي تًدرجه تحت بند اتيكيت معاملة الزوج. ولمن لم يسمع بعد عن مخترعة الصوت الشتوي (أي الدافئ والناعم)، سأعرض بكل أمانة، نماذج قليلة مما ذكرته في حلقاتها:
– الرجال هم أحلى ما في الحياة، والباقي كله مكملات: “ربنا خلق الراجل بيبرق وريحته قرنفل، زهرة اللافندر ماشية على الأرض. مسكن طبيعي للصداع ويغني عن أي دواء.”
– جوزك فرعونك، اخلعي الباروكة، وحطيه هو فوق رأسك بدالها.
– لا تنادي زوجك باسمه المجرد، قولي له بالصوت الشتوي ياااااا أستاذ فلان أو يا دكتور فلان أو ياباشمهندس فلان…الخ
– لو جوزك بيتكلم، وعايزة تدخلي الحمام، لا تفعلي يا مدام، غلط كده، لا تقاطعي فرعونك وتقومي، (حسك عينك) انتظري بصبر حتى ينتهي من كلامه، ثم قولي له، حبيبي، استأذنك أريد أن أذهب قليلاً لأتعطر من أجلك.
– لو أنت قاعدة جنب جوزك فرعونك ما تتنفسيش وهو بيتنفس، نظمي الشهيق والزفير، يمكن يكون متعصب.
– لما يكون جوزك جوعان، مافيش حاجة اسمها أجيبلك تاكل وخلاص، لأ، مش بطة هو، لما فرعونك يكون جوعان، حتقيسي وحدة قياس الجوع عند فرعونك!!!؟؟
قد تبدو تلك المقاطع نكات وفكاهات، ومحض مشاهد كوميدية، عندما تقرأ عنها أو تسمع بها، ولكنها تغدو صادمة ومفجعة عند مشاهدتها ومزاوجتها مع طريقة الأداء الجديّة والمؤثرة لتلك الإعلامية الجميلة الشكل كدمية باربي. بالنسبة لي، كان انطباعي الأول أن الفتاة المسكينة تعاني من مرض عقلي خطير ويجب أن تخضع للعلاج فوراً، ثم خرجت عن سذاجتي، وفكرت باحتمال آخر، قد تكون هي وبرنامجها مجرد أداة لجهة مصابة بسعار محاربة النسوية، جهة اختارت هذه الفتاة بالتحديد التي تشبه إحدى حوريات الجنة بصفاء بشرتها وزرقة عينيها، ثم وظفتها أو مولتها ووجهت محتوى حديثها، وعلمتها كيف تهز إصبعها الجميل ذا الظفر الأحمر الطويل في وجه الكاميرا وهي تهدد المشاهدات وتهذبهن، وتعلمهن طاعة أزواجهن وتفخيمهم، جهة تشبه بشكل أو بأخر، فرعاً عصرياً من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الأمر بالذكورة والنهي عن النسوية.
ذكرت سابقاً، أنني لست أول من تكلم عن ذلك الموضوع، فقد أثارت القصة منذ أشهر عدة، زوبعة إعلامية وإلكترونية هائلة في مصر خصوصاً والعالم العربي عامة، وتبادل رواد مواقع التواصل العشرات من المنشورات حولها، ساخرة كانت أم مستهجنة أو ناقدة، حتى أنني قرأت أن عدة جهات ومؤسسات خاصة وعامة تقدمت ببلاغات ضد البرنامج ومقدمته، وقرأت (على ذمة الكاتب) أن أستاذة إيتيكت التعامل مع الزوج الجميلة أحيلت إلى التحقيق.
الذي دفعني اليوم للكتابة عنها، ليس فقط رغبتي في نشر جنوني الخاص على حيطانكم الإلكترونية، ولكن أيضاً (وبما أننا على مشارف الاحتفال بيوم المرأة العالمي)، لأقدم اعتذاراً إلى صورة المرأة الحقيقية وكيانها الأصيل، من الأذى الذي ألحقته بهما جموع الموالين المتطرفين والمعارضين المتطرفين، عبر صراعهم التافه.
وأطرح السؤال الملح على نفسي: كيف ننجو من غزو البلهاء الذي يحاصرنا؟ كيف نحمي ذواتنا وأولادنا من السموم التي تنشر حولهم على كل الجدران؟ لم أجد إلا إجابة منطقية واحدة، الحل، ليس بهدم جدران الآخرين، ولا ببناء جدران كتيمة خاصة بنا لتحمينا وتعمينا عما ينشره سوانا، بل بتمكين فكرنا وفكر أولادنا، وتنمية القدرة الذاتية التي تمكننا وإياهم من التمييز بين الجنون الحميد والخبيث، وهي عملية طويلة وبطيئة تبدأ في الحلقة الصغيرة للأسرة ولا تنتهي بل تكتمل في المجتمع الكبير الذي نحن جزء منه.
ليبقى الفضاء مفتوحاً، وليكتب من يشاء ما يشاء على الحائط الذي يريد، فكرنا السليم سيستفيد من الجيد وسيعد المسيء لقاحاً ضرورياً، لاكتساب مناعة تعلّم أذهاننا آليه الدفاع عن النفس، ضد كل الغزاة، حمقى كانوا أم خبيثين.
وبالصوت الشتوي! أهنئ كل نساء الأرض، السلطانات والفرعونات وصاحبات الجلالة، بيومهن العالمي، وأتمنى أن يأتينا زمان لا نعود فيه بحاجة لهذا الاحتفال، إذ تكون المرأة وقتها كائناً متساوياً بالحقوق والواجبات مع غيره من الكائنات، ولا حاجة لاسترضائه ومصالحته وتعويضه، بيوم في السنة يخصص لدعمه وللنظر في شؤونه المرتبكة.
لوحات المادة للفنان السوري تمام عزام