عاش الدين الشعبي في بلاد الشام والعراق بكل أنواعه وطوائفه دون أن يكون طائفياً على الإطلاق. الحيوانات الطائفية طارئة على حياتنا المعشرية وقد خرجت من إسطبلات السلطة، الحيوانات الطائفية نجحت في تلويث فضاء الحياة النظيف بروائح وسخها، لا فرق في الحيوانات الطائفية سواء كانت حيوانات ترتدي ربطة العنق أو كانت ترصع أكتافها بالشارات العسكرية، أو كانت تخفي رؤوسها بالعمائم السوداء والبيضاء.
يختفي بعض المثقفين وراء حداثة زائفة، بالنظر إلى الثورات الشعبية العربية على أنها صراع ديني ثقافي، حيث ينظرون إلى الثقافة التقليدية عاملاً واحداً وحيداً لفهم ما يجري. وبالتالي تبرئة السلط المستبدة من مسؤوليتها عن هذا الخراب الحاصل.
فإذا كانت الحداثة انتصار العقل وحرية الإنسان والديمقراطية والمواطنة والمساوة في الحق دون النظر إلى الطائفة والدين والمنطقة والعرق، فإن تبرئة سلطة ديكتاتورية تدمر لبنات الحداثة الأولى وتحول دون ظهور أية حداثة، وتحطم المجتمع عبر القمع والعصبية المتخلفة، ومنع قيم الحداثة من الوجود، والحيلولة دون تعيينها في الواقع، بل وتدمير الدين الشعبي وقيمه وبعث أحط قيم تدمير الحياة المعشرية، فإن رد المسؤولية إلى الثقافة موقف لا أخلاقي من جهة وهروب من الموقف السياسي. بل إغراق في عصبية ما قبل حداثوية. إن الثقافة عامل فهم من جملة عوامل لكنها ليست أداة تزييف وهروب وتبرير.
إنها تبرئة للقتلة من ميليشيات حزب الله مثلاً، فما قصة حماية الأماكن المقدسة في سوريا والعراق التي طلع علينا بها حزب الله وإيران؟ وممن سيحمونها؟ ومن كان يحميها منذ أكثر من ألف عام؟
تخوض إيران وحزب الله معركة سياسية عسكرية مدنسة ضد حرية شعبي سوريا والعراق، انطلاقا من موقف طائفي-سياسي فقط، وإضفاء المقدس على هذه الحرب المدنسة تبرير أيديولوجي مكشوف وفج.
أولاً ليس هناك من أشخاص مقدسين في الإسلام ولا قبور مقدسة. هناك مكانة خاصة تستدعي احتراماً خاصاً.
ثانيا إن هذه الأماكن التي ينظر إليها حزب الله والإيرانيون على أنها مقدسة حماها الوعي الديني الشعبي في كلا البلدين، وإلا لما استمرت في البقاء حتى الآن.
وبالتالي إن تجييش الشعور الطائفي عبر الدفاع عن المقدس في خدمة السياسة، لا يختلف في شيء عن تجييش الوعي المسيحي في أوربا أيام الحروب الصليبية على أنها دفاع عن القدس.
وهب إن قبور من ينتمون إلى آل البيت مقدسة أليس في خطاب زائف تفوح منه رائحة الهيمنة والسياسة تدنيس المقدس. أليس الكذب على المقدس وباسم المقدس انحطاط أخلاقي؟
أيهما أكثر قدسية عند الإله أيها المدافعون عن المقدس القبري، مئة ألف طفل قضوا أم القبور التي تقدسون؟
واعلموا أن انتصار الدين الشعبي وتحريره من دنس السياسة والقتلة أيا كان مذهبهم جزء مهم من تحرير الأوطان.
كما أن الأصوليين وبعد عقود من الدكتاتوريات وبعد ثورات الشباب يطل علينا ويعلنون بكل ثقة: الإسلام السياسي هو الحل.
هل تذكرون المثل العربي الذي يقول: “كالمستجير من الرمضاء بالنار”، هذا بدقة ما يوافق القول بالإسلام السياسي هو الحل. الحل لا في إسلام سياسي شيعي على الطريقة الإيرانية والعراقية وميليشياتها، ولا في إسلام سياسي سني على الطريقة الداعشية أو الطالبانية.
بلادنا، كما غيرها من البلدان، لا يصلح لها نظام سياسي إلا النظام العلماني الديمقراطي. الدين الشعبي السوري والعراقي وفي كل أنحاء المنطقة دين لا علاقة له بالسلطة الدينية والسلطة السياسية، السلطة الدينية لا دخل لها بحياته وعلاقاته وتجارته وعاداته وأفراحه وأزيائه وحبه للحياة. الدين الشعبي دين حب الله وليس الموت من أجله.
مدننا كبيرة، مدن حرفة وصناعة وتجارة، وقرى زراعية منتجة، بلادنا متعددة الأديان والطوائف والإثنيات، سوريا بلد الفئات الوسطى الواسعة، بلد ثقافة الإبداع الأدبي والفكري والموسيقى. ثورات الشعب قامت من أجل حريتها وليس من أجل دينها. بعد تجربة الاستبداد الطويلة لا يمكنها أبداً أن تتحمل استبداداً من نوع آخر. الجماعة الحاكمة لم تكن علمانية ونظامها لم يكن علمانياً، وممارستها المستبدة قروسطية، وحسها الوطني معدوم، لا مواطنة دون علمانية ديمقراطية. العلمانية المستبدة على شاكلة علمانية الدولة الشمولية الشيوعية والنازية والفاشية هذه ليست علمانية، لأنها حولت الأيديولوجيا العلمانية إلى دين الدولة المستبدة.
الحيوانات الطائفية هي التي تزيف الحياة وتدمرها، ألا فاعلموا..
أحمد برقاوي