منصور المنصور
فاتحة
عندما فتحت عينيَّ رأيت سقفا أبيض. التفت إلى اليسار رأيت جدارا أبيض، ثم رأيت يدي اليسرى وقد انغرزت بها إبرة، خرج منها أنبوب رفيع. تتبعت الأنبوب صعودا إلى كيس من المصل معلق على مسند معدني بجانب السرير. حينها أدركت أنني في مشفى. لا بد وأن يكون نفس المشفى الذي نُقلت إليه قبل أسبوعين، ومكثت فيه أسبوعا. التفت إلى اليمين رأيت ممرضة هي نفسها التي رعتني قبل أسبوع وبجانبها مساعدتها. الممرضة سويدية شقراء وشعرها أشقر وعيناها زرقاوان، طويلة، في الخمسينات من عمرها. الممرضة المساعدة قصيرة بعينين سوداوين، شعرها أسود شديد السواد وكثيف، سيماؤها تشير إلى أنها من جنوب شرقي آسيا. كانت الممرضة والمساعدة واقفتين على بعد خطوتين مني، ابتسمتا لي كما ابتسمتا قبل أسبوعين، نفس الابتسامة في حجمها وطريقة تنفيذها. اقتربت الممرضة مني قليلا وقالت:
أتمنى أن تكون بخير؟
لم أجب، التفت إلى جهة الجدار، ورحت أتذكر وبالتدريج ما حصل. السجن، غرفتي في السجن، الطاولة، التلفزيون، رفوف بجانب الطاولة، كرسي، مسند ممتد فوق الطاولة يحمل لمبة، عبارة عن انيون مضاء، نافذة مقابل الطاولة. قبل شهر اعتقلت بتهمة القتل. وضعوني في تلك الغرفة. بعد ثلاثة أيام، لم أعد أحتمل البقاء، انتابتني مشاعر عدوانية عنيفة تجاه الشرطة. تحدثت إلى شرطي، كان فظا وقاسيا، نعتني بـالمجرم القاتل، ولست بريئا كما أدعي. في اليوم التالي ازدادت عدوانيتي تجاه كل شيء بسبب إحساسي بالظلم. تحدثت إلى الشرطية المناوبة، كانت امرأة في الأربعين من عمرها، تفهمت دوافعي، كانت تهز رأسها فقط، في نهاية الحديث قالت إنها مجرد شرطية غير قادرة على اتخاذ أي قرار. في الليل لم أستطع النوم، رحت أدور في الغرفة، والمشاعر العدوانية في أعماقي تزداد وتربو، وإحساسي بالظلم يصبح أكثر حدة. فجأة رحت أكسر محتويات الغرفة وأصرخ كي يخرجوني من تلك الغرفة اللعينة. لعلي حطمت كل محتويات الغرفة، ثم فقدت الوعي، لأصحو وأنا مستلق على هذا السرير. بقيت أسبوعا بناءً على طلب الطبيب النفسي الذي زارني ثلاث مرات، وتحدثت إليه مطولا. كان يستمع إلي، ويجيد الاستماع. أعتقد أنه صدقني، وطلب مني أن أحاول الكتابة. عندما أعادوني إلى غرفة السجن، قمت بنفس الفعل، وها أنا أصحو مستلقيا على نفس السرير، وها هما الممرضة ومساعدتها تبتسمان نفس الابتسامة اللطيفة، وتعيدان نفس الكلمات وبنفس الطريقة اللطيفة.
قالت الممرضة:
ــ سوف يزورك الطبيب غدا، أما اليوم فعليك أن ترتاح ولا تفكر بشيء، سوف أبقى إلى جانبك، عندما تحتاج لشيء، اضغط هذا الزر.
أشارت إلى زر بجانب السرير، ثم غادرت ومساعدتها الغرفة، وأغلقتا خلفهما الباب. حوّلت نظري إلى الخارج. من خلال النافذة رأيت طريقا عريضا ذا اتجاهين، كل اتجاه قُسم بخطوط بيضاء مقطعة إلى أربع حارات. فوق الطريق تماما عُلقت لوحة طرقية ضخمة، رُسمت عليها الطرق المتفرعة والمسارب الطرقية التي تقود إلى طرق أخرى. رأيت كلمة ستوكهولم مكتوبة على اللوحة الطرقية، وتحتها سهمان يشيران إلى الأمام. خطرت على بالي كلمة ستوكهولم. سألت نفسي من أين أتت كلمة ستوكهولم؟ ما هو الجذر اللغوي للكلمة؟ ربما تكون التسمية أتت من جمع كلمتين، ستوك وهولم. شعرت بالخدر من جديد وبالنعاس يزحف عبر جسدي شيئا فشيئا ثم نمت. استيقظت في الليل عدة مرات، ولكن لدقائق فقط، ثم أعود لأغط في النوم من جديد.
استيقظت صباح اليوم التالي. قدموا لي فطورا. أكلت بضع لقمات فقط. بعد الفطور دخل الطبيب النفسي مبتسما، نفس الطبيب السابق، صافحني وجلس على كرسي مقابلي. قال:
ــ سوف أكون معك لمدة أربع ساعات متواصلة إن أحببت. سوف نخرج من هذه الغرفة إلى الكافتيريا، لوحدنا. لن أسمح للشرطة بمرافقتنا. لقد تحدثت مع رئيسهم ووافق على طلبي. عليك أن تعدني ألا تقوم بأي فعل…. كأن تهرب مثلا، لأنني أنا الذي سيتحمل المسؤولية.
قلت:
أعدك.
نهض وضغط زر الجرس. دخلت الممرضة وهي تبتسم كالعادة. قال لها الطبيب:
أرجو أن تنزعي الإبرة من يد ماهر، أعتقد أنه لم يعد يحتاجها، سوف نخرج لنتناول القهوة في الكافتيريا.
قالت الممرضة، وهي ما زالت مبتسمة:
إنه خبر رائع ألا يحتاج ماهر لها.
نزعت الإبرة من يدي ووضعت لاصقا طبيا مكانها. نهضت بحذر وهما يتابعان حركاتي، ثم خرجنا من الغرفة. في الممر الطويل مشينا، لفت انتباهي أربعة عناصر من الشرطة، وعندما التفت للخلف رأيت مثلهم. حين مررنا بأحدهم، وقد يكون رئيسهم، توقف الطبيب معه وسمعته يقول للشرطي:
طلبت منكم أن تغادروا المكان أو أن تدخلوا إلى غرفة ما.
قال الشرطي:
لا علم لي بذلك.
ثم ابتعد عنا. تابعنا طريقنا إلى المصعد، ثم هبطنا إلى الطابق الأرضي. خرجنا من المصعد وذهبنا إلى الكافتيريا التي تقع بالقرب من مدخل المشفى. سألني الطبيب:
ماذا تريد أن تشرب؟
قلت:
قهوة.
طلب فنجاني قهوة، حملناهما إلى آخر طاولة، وجلسنا بحيث أرى كل من يدخل ويخرج من وإلى المشفى. رأيت تيارا من البشر يدخل، وتيارا آخر يخرج منه. يخيل للمرء أن عدد المرضى أكبر من عدد الأصحاء. كما يخيل لأي انسان ينظر إلينا أننا أصدقاء أو أقرباء، ولا يظن أبدا أنني سجين متهم بالقتل أجلس مع طبيبي النفسي. دائما هناك خداع أو ظواهر تبدو للمرء على غير حقيقتها، فيتمسك بها المرء أكثر من الحقيقة نفسها. سمعت الطبيب يسألني:
بماذا تفكر؟
نظرت إليه، تفحصت وجهه، بدا لي كهلا في نهاية الخمسينات من العمر. كنت قد رويت له قصتي كاملة في اللقاء السابق.
قلت:
أشعر أنني في ورطة، كالغريق الذي يصرخ فيمن حوله أنه يغرق والجميع ينظرون إليه ولا أحد يساعده.
قال:
لا أحد قادر على السباحة كي يساعدك. لست رجل قانون ولا أستطيع أن أتخذ قرارا ببراءتك. مهمتي أن أجعلك تتكيف مع وضعك. اكتبْ.
أكتبُ؟
كانت وجهة نظره منطقية. لن يستطيع أحد أن يخرجني من السجن وبالتالي سوف أخسر نفسي إن بقيت على هذه الحال. الطريقة الوحيدة أن أقنع القاضي ببراءتي، أو أن تظهر وقائع جديدة تجعل القاضي يغير رأيه. إلى أن يظهر شيء جديد، علي أن أتكيف مع واقعي الجديد قبل أن أخسر نفسي. الطريقة المناسبة لي كي أتغلب على الوقت وأنسى القرار الجائر الذي اتخذ بحقي هي أن أكتب. نصحني أن أكتب عن حياتي، عما حصل معي، منذ الطفولة إلى اليوم. قال:
أنت اشبه بالسفينة التي بدأت تترنح تحت حمل غير قادرة على حمله ومتابعة الرحلة. على الربان أن يتخذ قرارا إما برمي الأحمال في عرض البحر ومتابعة الرحلة أو الغرق. حملك الثقيل هو قصصك التي تؤلمك، كل تجاربك منذ الطفولة وحتى الآن. حياتك بكل ما فيها من أفراح وأحزان. يجب أن تتكلم عن كل شيء يخطر على بالك، أن تطرح كل ما يؤلمك إلى خارجك. وبما أنه لا مجال للكلام، لا يوجد إنسان تتحدث إليه، عليك أن تكتب. ارمِ بكل ما يؤلمك، بكل تجاربك الحزينة على الورق. تحدث عن كل شيء يخطر على بالك.
رحت أنظر حولي، إلى الناس الداخلين والخارجين من المشفى، نظرت من النافذة إلى الخارج. سوف أفتقد كل هذا الذي أراه الآن. سوف أنزوي في غرفتي في السجن ولربما لسنوات طويلة. وعليَّ أن أتكيف، كما قال لي الطبيب، مع واقعي الجديد، وإلا سوف أخسر نفسي ولن يسأل عليَّ أحد.
أمضينا ما يقارب الساعتين ونحن نتحدث تارة ونصمت تارة أخرى. ثم قلت إنه يجب أن ننهض لأنه لم يعد لدينا شيئ نقوله. أوصلني إلى الغرفة، ثم مد يده لي مصافحا وقال:
أنا صدقتك، صدقت كل كلمة قلتها لي ولكن، وكما قلت لك، لست صاحب قرار في ذلك. نصيحتي لك أن تكتب وتكتب وتكتب. تخلص من ألمك بالكتابة، أخرِج ألمك من أعماقك وضعه أمامك على الورق وتأمله.
قلت له:
سأحاول، أعدك.
عانقني وهو يقول:
ربما نلتقي. ولكن أرجو ألا نلتقي هنا، نلتقي في مكان ما، نجلس، نتحدث، ونعيد ما قلناه اليوم كذكرى. أما الآن فلك القرار إن أردت أن تغادر الغرفة، فقط اطلب من الممرضة ذلك.
ثم ذهب، تابعته بعيني، فتح الباب وخرج ثم أغلق باب الغرفة خلفه. ساد صمت في الغرفة وأنا مازلت واقفا. تحركت ببطء وضغطت زر الجرس. لحظات ودخلت الممرضة وهي تبتسم، قلت:
أريد أن أعود إلى السجن.
دخلت إلى غرفة أخرى في السجن، لأن غرفتي ما زالت محطمة وتحتاج إلى وقت، كما قال لي الشرطي. جلست على السرير، وقبل أن يغادر الشرطي الغرفة طلبت مقابلة المدير المسؤول. ذهب ليعود بعد دقائق وبرفقته المسؤول، قال:
ماذا تريد؟
قلت:
أريد لاب توب.
قال:
حسناً، غدا سوف أنقل رغبتك للمدير.
تذكرت كلام الطبيب:
ارمِ بكل ما يؤلمك، بكل تجاربك الحزينة على الورق.
الورق! ولِمَ لا! نعم سوف أستخدم الورق بدلا من اللاب توب. سأتذكر طفولتي وأنا أكتب على الورق. أحببت الفكرة، أن أكتب على الورق، ورق أبيض مثل النهار. سوف أستخدم أقلاما ملونة.
قلت للشرطي:
أريد أوراقا وأقلاما ملونة، أزرق وأحمر وأخضر وأصفر.
قال:
سأنقل رغبتك لمديري.
ذهب الشرطيان بينما استلقيت على السرير، ورحت أخطط كيف سأكتب، وماذا سأكتب، ومن أين أبدأ الكتابة.
شرعت أفكر بطريقة مفيدة لاستغلال الوقت الفائض في السجن. وضعت خطة لصرف الوقت بطريقة مفيدة. الاستيقاظ صباحا، ممارسة الرياضة، أخذ دوش، تناول الفطور، استراحة ساعة بعد الفطور، الكتابة لمدة أربع أو خمس ساعات، غداء، استراحة بعد الغداء، قراءة، مشاهدة التلفزيون ثم النوم.
نمت وأنا أشعر برضا داخلي، لأنني بدأت أتقبل الوضع، وسوف أستفيد منه على نحو جيد، بدلاً من أن أبقى حزينا ومنفعلا وساخطا. استيقظت صباحا، ونهضت إلى ممارسة الرياضة، ثم أخذت دوشا، واتجهت إلى صالة الطعام، تناولت فطوري، وعدت إلى غرفتي، بعد دقائق أتت شرطية. قالت:
صباح الخير.
نظرت إليها، كانت تبتسم وبيدها كدستان من الورق، وأربعة أقلام في علبة بلاستيكية. قلت:
صباح الخير، هل أنت شرطية جديدة.
قالت وهي ما زالت تبتسم:
لا، أنت الجديد، أليس كذلك.
قلت:
نعم أنا جديد في السجن، ولكن لم أرك سابقا.
قالت:
كنت في قسم آخر من السجن. تفضل هذه أوراق وأقلام. أتمنى أن تستمتع بالكتابة.
أخذت الأوراق والأقلام منها وأنا أنظر إليها بطريقة مختلفة. شعرت أنها مختلفة عن كل الذين قابلتهم. شعرت بأنها إنسانة قبل أن أشعر أنها شرطية تمارس عملها.
قالت:
ماذا ستكتب؟
هززت كتفي وقلت:
لا أعرف، ولكن سأكتب عن نفسي، ربما عن حياتي.
قالت:
أعتقد أنك ستكتب لصديقتك، لحبيبتك.
هززت كتفي مرة أخرى وقلت:
ربما.
سمعت صوتا يناديها:
ماتيلدا، لو سمحت.
ذهبت ماتيلدا دون أن تنظر إلي. وضعت كدستي الأوراق والأقلام على الطاولة، وجلست أفكر، ماذا أكتب وكيف. نزعت الغلاف عن الأوراق وأخذت مجموعة أوراق، واخترت قلما أخضر وكتبت في أعلى ومنتصف الورقة: الورقة الأولى.
أعجبني العنوان الفرعي ” الورقة الأولى ” وقررت أن أسمي كل مجموعة أوراق، أو كل فصل بالورقة ثم الرقم التسلسلي. مثلا، الورقة الأولى، الورقة الثانية، الورقة الثالثة، وهكذا.