منصور المنصور
ولدت في حي يقع على تخوم العاصمة ستوكهولم. يخترقه لسانان مائيان، وهما استطالتان للأرخبيل الضخم الذي تقع عليه ستوكهولم. عدد قاطنيه الآن يزيد على الأربعين ألفا، كلهم من أصول مهاجرة، من دول أفريقية وآسيوية، وبعض دول أوروبا الشرقية. لم أغادر الحي أبدا حتى أصبح عمري 14 عاما، عندما بدأت أدخل مرحلة المراهقة. عندها بدأت أقارن بين حيّنا والأحياء التي أمر فيها أو اذهب إليها لسبب أو لآخر. في المقارنة تبين لي أن الحي فيه الكثير من الفوضى، والازدحام، والحركة والحيوية. متى وأينما ذهب المرء وجد المراهقين والشباب يملؤون الشوارع صخبا وحركة. أما مركز الحي فهو أكثر الأماكن ازدحاما بالناس من مختلف الأعمار. مراهقون ورجال وشيوخ. نساء وصبايا، أغلبهن محجبات، وبعضهن منقبات. أطفال برفقة أمهاتهم. يرى المرء كرنفالا من الأزياء متعددة الألوان، ويسمع لغات متعددة، أفريقية وعربية وآسيوية وسويدية. يتشكل السوق التجاري للحي من متاجر كبيرة أو مولات مثل ” إكا ماكسي والكوب، والدولار، وليز وإلغيغانتن ” وهذه كلها متاجر سويدية عملاقة. ثم تأتي متاجر الألبسة، وهي أيضا متاجر سويدية كبيرة، ثم سلسلة مطاعم الوجبات السريعة العالمية مثل، ماكدونالدز، كينتاكي، وماكس، ثم متجر بيع المشروبات الكحولية، ثم يأتي سوق للخضار والفواكه، وهو سوق شعبي جدا، يتكون من أبنية ذات طابق واحد وأمام كل متجر عربات وبسطات وخيم. يفرد الباعة بضاعتهم بشكل يمكن للمرء أن يراها ليشتري ما يريد. بعد السوق يأتي مستوصف الحي، وهو بناء ضخم مكون من عشرة طوابق، ثم بناء متطاول يضم سوقا مغلقا يحتوي على صيدليتين، ومطاعم وبيتزيريات، ومحلات للألبسة والأحذية، وكافيهات، ومهن أخرى.
بعد السوق التجاري مباشرة، حيث تبدأ الأحياء السكنية تحيط السوق من جميع الجهات، يقع المركز الإسلامي لحوار الأديان، الذي أسّسه ويديره جدي قاسم، جدي لأمي. وهو بناء كبير، مؤلف من طابقين، يضم صالة كبيرة كمسجد للرجال وأخرى للنساء. كما يضم صالتين للمحاضرات والدروس الدينية، وصالة لإقامة العزاء في حالة الوفاة، ومكاتب، ومكانا للوضوء، وحمامات. يقع المركز الإسلامي على تقاطع شارعين رئيسيين، وعلى امتداد الشارعين تقوم سلسلة من البنايات ذات العشرة طوابق. هنا تسكن عائلتي وأقربائي. يطلق جدي قاسم عليهم لقب العشيرة والعزوة. يتجاوز عددهم المئة شخص.
كان وما يزال نظام العائلات هو المسيطر على الحي. فالعديد من المهاجرين الأوائل جلبوا وعلى مدى سنوات عديدة أقرباءهم من مواطنهم الأصلية، ليشكلوا حماية لهم، على الرغم من أنهم ليسوا بحاجة لحماية من أحد لأنهم في دولة المواطنة المتساوية، والقانون يسري على الجميع وبالتساوي، إلا أن كل المهاجرين قادمون من مجتمعات ذات ثقافة ما قبل حداثية، تعتمد في حماية نفسها على العائلة والعشيرة والصلات والنفوذ، إضافة إلى طغيان السلطات في تلك المجتمعات وانتشار الفساد. كل تلك الأسباب وأسباب أخرى أدى إلى إلغاء القانون في الواقع، ولكنه موجود على الورق فقط. تميز حينا بكثرة العاطلين عن العمل وتدني مستوى التعليم. وهذا أفضى إلى انتشار المخدرات والدعارة. وهذه الأعمال تقتضي الجريمة للردع والردع المضاد، وهذا عزز الاعتماد على العشيرة وغياب القانون. ثم إن الحكومات السويدية المتعاقبة تتحمل مسؤولية كبيرة عندما تخلت الشرطة السويدية عن واجبها بدخول الحي وفض النزاعات وإحالة المجرمين للقضاء. إن غياب الحكومة المتمثلة بالشرطة عزز مواقع المجرمين، الذين بدورهم عززوا وأنشؤوا النشاطات التجارية الممنوعة مثل المخدرات والدعارة وتجارة السلاح.
سيطرت عائلتان، وبالتعاقب، على الحي منذ أن بدأ المهاجرون يشكلون أكثرية وحتى الآن، حيث انتقل جميع السويديين من الحي. أما عائلتنا – العشيرة – فقد سيطرت على الجانب الديني أو ” السلطة الدينية”. وصادف أن سمعت قصة تلخص ما حدث من صراع بين عائلتين انتهت إلى سيطرة العائلة الثانية.
منذ أن كنت طفلا، لا يتجاوز عمري ست سنوات، وأنا أرافق جدي قاسم. كنت الحفيد المفضل لديه. أمضي أغلب وقتي عنده، في المركز الإسلامي، حيث عمله ومكتبه، أو في شقته.
سمعت القصة وكان عمري 14 عاما. كنت في مكتب جدي أجلس في الزاوية، اقرأ في كتيب صغير اسمه ” قصص الأنبياء ” معد للأطفال. كان جدي يجبرني على قراءة مثل هذه الكتب عن طريق رشوتي إما بالنقود أو يشتري لي كرة قدم أو أي لعبة أطلبها منه. دخل رجل يُدعى ” شريف القوي “، في منتصف الثلاثينات من عمره. لفت نظري جسمه القوي، شارباه الكبيران، وصوته الجهوري، وحدة نظراته، وحاجباه الكثان. كل حركاته توحي بالقوة والاعتداد والثقة بالنفس. لأول مرة أرى رجلا يتحدث إلى جدي بهذه الطريقة. طريقة توحي أنه لا يهاب جدي، بل على العكس من ذلك كان جدي يتعامل معه بلطف مبالغ فيه. في تلك اللحظة نسيا وجودي، أو اعتبرا وجودي ليس ذا أهمية. شعرت أن للموضوع أهمية كبيرة، لذلك رحت أصغي وأنا أتصنع أنني اقرأ في الكتاب، ولم أقم بأي فعل أو حركة تلفت الانتباه. راح شريف القوي يتحدث إلى جدي بطريقة ليست استفزازية ولكنها قوية وصارمة، قال:
“يا حاج قاسم، أتيت إلى هنا لوضع النقاط على الحروف. ارجو ألا تقاطعني حتى أنهي كلامي.”
هز جدي رأسه وقال:
“ـ تفضل.”
تابع شريف القوي:
“عائلتي أتت إلى الحي عام 1970، قبل عائلتك بعشر سنوات. أتى أبي وأمي ومعهما أربعة أبناء، وكان عمري حينها سنتين. في ذلك الوقت كانت عائلة البوغورومي مسيطرة على الحي. اعتقد أنك سمعت الكثير عن قصصهم في ذلك الوقت. تلك العائلة الخبيثة قدمت إلى الحي قبلنا بعشرين عاما، وهي من أسست أول بيوتا للدعارة، وأدخلت العاهرات إلى الحي، ثم راحت تستخدم بعض نساء الحي كعاهرات. كانت عائلة قوية جدا، لديهم نفوذ على الناس، ويمتلكون أسلحة وملايين من الدولارات. استأجروا مجرمين محترفين، في ذلك الوقت، كي يخضعوا الحي لهم، ونجحوا في ذلك.
بعد شهر من وجود عائلتي في الحي، بدأت المشاكل بين أبي من جهة وزعيم تلك العائلة المدعو ” الأب ناغومي “. حاول الزعيم إخضاع أبي لسلطته في وقت مبكر، لأنه استشعر أن أبي صعب المراس ولن يخضع له، وسيشكل له عقبة في المستقبل. كانت أمي ذاهبة للتسوق، أوقفها أحد رجال البوغورومي، وراح يتحدث اليها باللغة السويدية. لم تكن أمي تفهم السويدية في ذلك الوقت. شرع الرجل باستخدام يديه، لغة الإشارة، كي يفهمها ما يريد. ما فهمته أمي أن الرجل يريد أن يمارس الجنس معها مقابل المال. كانت هذه إحدى الطرق التي تستخدمها عائلة البوغورومي، لإخضاع القادم الجديد. بصقت أمي في وجهه، وعادت مسرعة إلى البيت. تحدثت إلى أبي، الذي شعر بإهانة شديدة وهو لا يعلم من هو هذا الرجل. ظن أن المسألة مسألة تحرش جنسي. خرج وبرفقته أمي كي ترشده إلى الرجل. لم يعثرا عليه. استمر أبي يخرج إلى الشوارع وبرفقته أمي، يدوران في الشوارع ويذهبان إلى مركز الحي وكل الأماكن العامة علهما يصادفان ذلك الرجل، إلى أن عثرا عليه. عندئذ طلب من أمي أن تذهب للبيت. رفضت أمي طلبه خوفا عليه، ولكن أبي رمقها بنظرة جعلتها ترضخ للأمر. كان أبي قد تسلح بسكين حادة جدا. راح يراقب الرجل ويتبعه من مكان إلى آخر حتى أصبحا وحيدين، في مكان خال من الناس. وضع أبي قطعة قماش على وجهه كقناع، ثم انقض على الرجل بسرعة البرق، وراح يعمل سكينه في وجه ذلك الرجل، وبلمح البصر كان الدم يسيل من وجهه، ثم ركض أبي هاربا قبل أن يتجمع الناس، ويصل الخبر لعائلة البوغورومي. تم إسعاف الرجل وإنقاذ حياته، ولكن بصمة أبي على وجه ذلك الرجل ما زالت وستبقى إلى الأبد. لقد تشوه وجهه، ولم يستطع الأطباء إصلاح الأمر لأن الطعنات كانت عميقة. لم ير أحد أبي، حتى الرجل المغدور لم ير وجه أبي. زعيم البوغورومي ” الأب ناغومي ” عرف بالحدس من تجرأ على أحد رجاله وقام بتشويه وجهه. إنها رسالة بليغة الدلالة.
أحدهم، من الذين يكرهون عائلة البوغورومي، أوصل الخبر لأبي أن الأب ناغومي قرر الانتقام منه. اختفى أبي عن الأنظار، لم يعد يخرج من البيت، وراح يتواصل مع أقربائه القاطنين في أماكن مختلفة في السويد. قرر بعضهم أن ينتقل إلى الحي من أجل حمايتنا، بينما راح البعض الآخر يزور الحي من حين لآخر. خلال ثلاثة أشهر انتقلت إلى الحي عشر عائلات من أقاربنا، كل عائلة تضم ما بين ثلاثة وسبعة شبان. خرجوا إلى الشوارع، وراحوا يستعرضون قوتهم وهم يحيطون بأبي من جميع الجهات، وكل واحد منهم يحمل سلاحه. لأول مرة بتاريخ الحي يظهر السلاح جهارا نهارا. ثم راحت العائلة تخطط لجلب المزيد من الأقرباء من الوطن الأصلي، عن طريق التهريب أو الزواج
اطمأن أبي أن الحادث قد مر بسلام، وأن الأب ناغومي تناسى الإهانة التي وجهت له، وخاصة أن عائلتنا بدأت تكبر وتتعزز قوتها، لذلك خرج للعلن وبدأ يمارس حياته الطبيعية، ولكنه تلقى طعنة في بطنه، أدت إلى استئصال جزء من معدته. هذه الحادثة أعلنت الحرب بين أبي وأقربائه من جهة وبين عائلة البوغورومي من جهة أخرى. استمرت الحرب لمدة عامين، انتهت عندما قتلنا زعيمهم الأب ناغومي. كانت الخسائر فادحة علينا وعليهم، لقد فقدنا خمسة شباب وهم فقدوا سبعة وزعيمهم. جرح العشرات من الطرفين، وتم حرق عشرة بيوت للطرفين وخسائر كثيرة أخرى. إلا أننا انتصرنا وتم ترحيل كل أفراد البوغورومي، إلا الذين اعترفوا بسيطرتنا على الحي. كما كان من نتائج الحرب أن منعنا الشرطة من الدخول إلى الحي. لقد خسرت الشرطة اثنين منهم وجرح ثلاثة. منذ ذلك الوقت ونحن ندير الحي كما نريد، نحن السلطة ولا نريد لأحد أن يشاركنا، ومن سيحاول سيخسر الكثير.
شعر جدي بالإهانة، لذلك قال:
ــ ماذا تقصد يا سيد شريف؟
أجاب شريف:
ــ أقصد أن تبتعد عن طريقنا وإلا ستخسر. لقد أسست المركز الإسلامي وباركنا لك هذه الخطوة. نحن نعرف أن نقودا هائلة تحصل عليها من السعودية مقابل ذلك، ومع ذلك مبارك عليك. ثم غيرت ولاءك وارتبطت بقطر، وتدفقت أموال قطر عليك بغير حساب. أيضا نقول لك مبارك عليك.
قاطعه جدي بحدة:
ــ لا أسمح لك بهذه الاتهامات.
قاطعه شريف بصوت أعلى وصارم:
ــ اسمعني للآخر. لم آتِ كي أسمعك. إياك والتذاكي معنا، الغلطة معنا لن تتكرر، نحن أشبه بكهرباء التوتر العالي، الغلطة الأولى تكون الأخيرة. لسنا ضد أن تجلب النقود من أي جهة كانت، ولسنا ضدك بأن تكون رجل دين ويستشيرك كل أهل الحي، بل بالعكس نحن معك، سندعمك ونقويك ونقف في وجه أي كان إن أراد أن يعاديك، ولكن لا تحاول أن تقف في وجهنا، ولا أن تستغبينا ولا حتى تلميحا. لا تحاول أن تهمشنا وإلا سوف تختفي وإلى الأبد.
نهض شريف وقد أنهى كلامه بهذه الجملة الواضحة الدلالة، القاطعة والحاسمة، وخرج. ساد صمت ثقيل وجدي لا يزال جالسا في مكانه. بدا خائفا، تائها، شعرت أنه مات. أصبح وجهه شمعيا، خاليا من أي حياة. خفت لأول وهلة، ثم عندما حرك يده ووضعها على رأسه أدركت أنه ما زال على قيد الحياة.