ملخص ما سبق
ماهر شاب سويدي من أصل عربي يروي قصة الحي المنعزل الذي نشأ فيه وكيف سيطرت عليه عائلتان متحالفتان، تسيطر عائلة ماهر على المسجد والأخرى على الجريمة. أرسيت دعائم صداقة غريبة، بل غير مفهومة بين تجار مخدرات وأصحاب بيوت دعارة ومجرمين وبين رجل دين يدير مركزا ضخما للإسلام في السويد. سيعرض أحد أفراد العائلة الثاني على ماهر أن يعمل في بيع المخدرات.
***************
أنا فرد من جيل من المهاجرين، ولدت وكبرت هنا، ليس لدي أي شعور بالانتماء إلى وطن ما. فالوطن الأصلي لأبي وأمي وأجدادي عبارة عن قصص سمعتها منهم، ذكريات قيلت في أوقات الملل، حيث الليل هنا في فصل الشتاء يتجاوز 16 ساعة. هذه الذكريات شكلت في مخيلتي وطنا ما، لكنه بقي وطنا افتراضيا، يشبه علاقات الأصدقاء على الفيس بوك. كان حديث الأهل والأقارب والأصدقاء يشير إلى دولة السويد على أنها محطة مؤقتة، سنمكث هنا لفترة ما ثم سوف نعود إلى الوطن الأصلي. أشعر أن لا جذور لدي، تشدني إلى أي بقعة جغرافية كوطن لي. انتبهت إلى أمر هام، فأثناء الحديث والمناقشات كنا وما زلنا نستخدم ضمائر “نحن و هم”. ” نحن ” تشير إلى عائلتي وأقربائي والحي وكل المهاجرين الذين من حولي بينما “هم ” تشير إلى السويديين. سألت جدي فاضل، والد أبي، مرة:
ـ هل تعتقد أن السويديين يستخدمون نفس الضمائر، ” هم ونحن ” للإشارة إلى طرفين؟
نظر إلى لفترة ليست قصيرة ثم قال بإعجاب:
ــ أنت ذكي يا ماهر، إنه سؤال هام ولكن ….
توقف قليلا وهو يفكر ثم تابع:
ــ بالفعل سؤال مهم، بل ملاحظة مهمة، ولكن ليس لدي إجابة، لا أعرف كيف ينظرون إلينا وخاصة إليكم، أنتم الذين ولدتم هنا.
بقي هذا السؤال بلا جواب ولم أتلق إجابة حتى الآن. في هذا الحي لا تُطرح أسئلة من هذا النوع، لأن الثقافة التي تكونت وسادت لا تحرض على السؤال، لأن ثقافتنا هي ثقافة العلم الكامل مسبقا والنتائج الكاملة مسبقا. فكل الاختراعات والاكتشافات هي موجودة عندنا في ثقافتنا مسبقا. إنه وهم المعرفة وتضخم الأنا، الذي إذا أصاب أمة جعلها في مؤخرة الأمم. بالإضافة إلى ذلك لم أتلق تربية، لا في المدرسة ولا في البيت، عززت في ضميري حبا وانتماء للسويد. أحب السويد ولكن حبا للمكان الذي ولدت فيه وعشت طفولتي وارتبطت ذاكرتي به، هو تعلق بمكان الولادة والطفولة. كما أنني تلقيت تربية بطريقتين وأسلوبين مختلفتين ومتناقضتين، الحضانة والمدرسة من جهة والبيت والعلاقات الاجتماعية والمركز الإسلامي من جهة أخرى. أخذت من ثقافات متعددة، الثقافة السويدية والثقافة العربية الإسلامية وثقافة ثالثة أخذتها من ثقافات المهاجرين من قوميات ودول أخرى.
في الصف الأول نُقلت من الحضانة إلى مدرسة أكثر بعدا عن البيت، تقع على تخوم الحي. رأت أمي ألا أتعلم في مدرسة الحي، لأن فيها الكثير من المشاكل. ففي اليوم الأول جرت مقابلة بين والدي ووالدتي ومديرة المدرسة. ما زلت أذكر تلك المقابلة والكلام الذي قيل. وقتها شعرت أننا كأسرة نختلف عن الآخرين، وأنني كتلميذ أختلف عن التلاميذ الآخرين. شعرت أن هناك شيئا يميزنا عن السويديين. لم أعرف إن كان ذلك أفضل أم أسوأ، ولكن هناك ” نحن ” وهناك ” هم “.
أذكر وقتها قال أبي للمديرة:
ــ نحن مسلمون، لا نأكل لحم الخنزير.
قالت المديرة:
ــ نحن نحترم خيارات وثقافات الأهل.
ــ عندما أكبر سوف افهم كل شيء ولن أحتاجكم.
هذا ما حصل. لقد كبرت وحصلت على أجوبة ولكن ليست الأجوبة التي يتمنونها أهلي. حصلت على أجوبة قاطعة، وعلى أجوبة متناقضة، كما أن هناك أسئلة بقيت بلا إجابات، وبقيت رؤيتي غامضة. كانت الأجوبة تتغير، لأن لكل مرحلة عمرية أجوبة خاصة بها، إلا أنني لم أثق بأجوبة الأهل والمجتمع المحيط بي، خاصة أبي وجدي قاسم، كانوا يستخدمون طريقة الإجبار والإكراه لإقناعي بأي شيء هم يرونه صحيحا.
في الصف الثالث وفي بداية العام الدراسي، انتقل تلميذ جديد إلى مدرستي، وصادف أن كانت الطاولة التي بجانبي فارغة. طلبت المعلمة من التلميذ الجديد، الذي ما زلت أذكر اسمه، ألكسندر هانسون، أن يجلس إلى جانبي لأن الطاولة فارغة. رفض ألكسندر الجلوس وبقي واقفا، وراح ينظر إلي بعدائية واضحة. لم أفهم السبب ولم أهتم لأمره إلى أن أتت المعلمة وطلبت منه الجلوس فرفض مرة أخرى. هز كتفيه وراح ينظر إلى الأرض، ثم اقترب من المعلمة وهمس لها ببضع كلمات. سمعته يقول:
ــ لن أجلس إلى جانب هذا المهاجر، أنا لا أحبهم.
أصبح وجه المعلمة أحمر، نظرت إليه بضيق وطلبت منه أن يتبعها. خرجا من الصف وعادا بعد ربع ساعة أو أكثر قليلا. جلس ألكسندر إلى جانبي ولكنه بدا مجبرا على ذلك لأنه جلس على طرف الكرسي من الجهة الأخرى بحيث ترك أكبر مسافة ممكنة بيني وبينه، وبقيت تعابير وجهه عدائية تجاهي.
في فترة الاستراحة، اقتربت منه وأبديت استعدادي لمساعدته، كالعادة وكطفل يتعاطف مع طفل آخر. نظر ألكسندر إلي وفي عينيه كره شديد وقال:
ـــ أنت ذو الشعر الأسود، اذهب، عد إلى بلدك، نحن لا نحبكم، لا نريدكم في بلدنا.
إلى الآن ما زلت أتذكر تعابير وجه ألكسندر وكلماته. ما فهمته حينها أن ألكسندر يكرهني جدا لأن شعري أسود. بقي في مدرستنا ثلاث سنوات، وطيلة تلك الفترة ظل يكرهني، وكلما حصل احتكاك بيننا كان يُسمعني كلاما سيئا. حاول أن يحشد ضدي التلاميذ الآخرين، وحاول إقناعهم أنني طفل سيء وقذر، وعندما أكبر سوف أقتلهم. كان ألكسندر يذكرني بكلام جدي والآخرين في ذلك المجتمع الصغير في حينا. كان جدي يقول إن السويديين يكرهون الأجانب وخاصة المسلمين، لذلك علينا، نحن المسلمون، أن نتوحد لنكون أقوياء. كثيرا ما سمعت هذا الكلام، وكنت في حيرة من أمري. هل أصدق هذا الكلام، وخاصة بوجود أشخاص مثل ألكسندر، أم أن هذا الكلام غير صحيح لأن هناك العشرات ممن عرفتهم من السويديين كانوا في غاية اللطف.
من الصف الرابع إلى الصف التاسع كان جدي، وبمساعدة الأهل، ينظم نشاطا كشفيا كل صيف. يبنون الخيم في أحد الأماكن البعيدة عن ستوكهولم. ننام هناك لمدة أسبوعين بعيدين عن الأهل. كان البرنامج اليومي يبدأ الساعة السادسة صباحا، نلعب الرياضة، ثم نتناول الفطور، ثم ننطلق في رحلة بحرية على متن قوارب لمدة ساعة أو أكثر، أو نقوم برحلة في الغابة لمدة ساعتين. نتناول الغداء، نرتاح ساعتين، ثم يتحدث أحد رجال الدين عن بعض القيم الاجتماعية من منظور إسلامي، ثم هناك ساعتا مرح وضحك من خلال ألعاب نقوم بها نحن الأطفال. طبعا كلنا ذكور، لأنه ممنوع الاختلاط مع الإناث. كانت أياما ممتعة ما زلت أتذكرها وما زلت أرتبط ببعض من شاركوا بعلاقات معرفة طيبة.
في الشتاء كان النشاط يتم في المسجد التابع للمركز الإسلامي. كان جدي يجمعنا مرة كل أسبوع، يلقي علينا هو أو أحد مساعديه محاضرة عن الدين الإسلامي. كان يتحدث عن عظمة الخلفاء الراشدين وعن أمجاد الإسلام وعن الفتوحات الإسلامية التي وصلت إلى أوروبا والصين والهند. كنت ارتاح لحديثه هذا وأطرب للمعارك التي خاضها المسلمون في ذلك الوقت، والانتصارات التي حققوها ضد الشعوب الأخرى.
سال أحد التلاميذ المحاضر:
ــ ولكن أليس عملا سيئا أن نحتل أرض الغير؟
أجاب المحاضر:
ــ لا ليس سيئا، لأننا ننشر دين الله، الإسلام، لأنه دين الحق. وبالتالي لنا الحق في أرض الغير وفي أملاكهم ونسائهم.
بعد المحاضرة، حيث جلس جدي والمحاضر وبعض أعضاء الهيئة الإدارية للمجلس في مكتب جدي يتناولون الشاي. سمعت جدي يقول للمحاضر:
ــ يا أبا حمزة لقد أخطأت عندما تحدثت عن حقنا في أرض وأملاك ونساء الآخرين.
قال أبو حمزة مستنكرا:
ــ أنا أخطأت!؟ وهل أخطأ الخلفاء الراشدون عندما فتحوا بلاد الشام ومصر وفارس؟ هل كانت الإمبراطورية الإسلامية على خطأ عندما احتلت معظم دول العالم في ذلك الوقت.
قال جدي:
ــ لا بالطبع لا. أستغفر الله أن يخطئ الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم وأرضاهم. اقصد أنك أخطأت بالحديث إلى الأطفال. ليس كل ما تعرفه يقال.
رد أبو حمزة:
-أطفال اليوم هم رجال الغد يا حاج قاسم. يجب أن يعرفوا تاريخ أجدادهم المشرق. يجب أن يعرفوا أننا كنا سادة العالم، وكان العالم عبيدا عندنا.
رد جدي:
-لا أعتقد أنه من الصواب الحديث عن سبي النساء والغلمان. وليس حكيما من يتحدث عن العبيد في هذا الوقت.
قال أبو حمزة:
ــ هذا رأيك يا حاج قاسم، وأنا لي رأي آخر.
رد جدي:
ــ كما تريد.
كنت أتخيل أنني سوف أكون أحد هؤلاء القادة، وأقوم بغزو أوروبا واحتلالها. سوف أنطلق من هنا، من ستوكهولم، بعد أن أبني جيشا إسلاميا ضخما. كنت سأنتقم من ألكسندر، وأختار صديقا سويديا، من المدرسة، ليكون مساعدا لي، والذي بالطبع سوف يصبح مسلما مثلي، ليساعدني في قيادة الجيش وفي جعل السويديين يصبحون مسلمين. تخيلت نفسي أقف على تلة مرتفعة وأنا أرتدي اللباس العسكري الكامل من رمح ودرع وسيف، وأمامي، أسفل التلة، الملايين من البشر، أخطب بهم:
ــ عليكم أن تختاروا إما أن تكونوا مسلمين أو أن تختاروا الحرب.
هذه الأحلام الطفولية كان جدي قاسم ومن معه يغذونها بشكل دائم. كثيرا ما حدثنا، في محاضراته، عن أن هدف المسلم في الحياة أن ينشر الإسلام وأن يجعله الدين الوحيد في العالم. كان يقول إن الدين عند الله هو الإسلام لأنه دين الرحمة والعدل وهو سوف يحل كل المشاكل من فقر وجوع ومرض.