ملخص ما سبق
اعتقل شاب سويدي من أصل عربي بتهمة قتل هو بريء منها وساءت حالته النفسية فنصحه طبيب نفسي ودود أن يكتب ما جرى معه. وبدأ في الكتابة فعلا، بدءاً من طفولته في حي إسلامي مغلق في ستوكهولم.
تسيطر على الحي عائلتان إحداهما عائلة فتوات تفرض الإتاوات وتمارس كل أنواع الممنوعات، والأخرى دينية. أحد أقوى أفراد عائلة الفتوات، شريف القوي، زار كبير العائلة الدينية، الشيخ قاسم، وهدّده ألا يتدخل في شؤونه.
*******
نحن كعائلة غير قادرين على مواجهة هؤلاء، إنهم مجرمون، يديرون شبكات تهريب المخدرات والدعارة في الحي وبأحياء أخرى في مدن أخرى. ولكن بالمقابل نحن، العائلة والأقرباء، حصلنا على تعليم في الجامعات، والجميع يعمل، ولجدي نفوذ ديني كبير على الناس .
في المساء من نفس اليوم زار أبو شريف جدي، بصحبة أولاده الأربعة, يكنى بأبي عاصي، لأن ابنه الأكبر اسمه عاصي,كان في استقبالهم جدي وأولاده وأبي.
كان جدي متحفظا في البداية، بل متجهم الوجه، إلا أن أبا عاصي قال له:
ــ يا حاج نحن نعتذر عن بعض الكلمات التي قالها شريف لك، ربما كانت قاسية بعض الشيء، ولكن نحن نريد صداقتك وحمايتك.
قال جدي باستنكار:
ــ حمايتي!؟ ممّن؟
قال أبو عاصي:
ــ هناك الكثير من يحسدونك على ما أنت به من نعيم ومنزلة بين الناس, أنت تعرف أن الحي مليء بالمشاكل. وهناك الكثير ممن لا يرتاحون لخطبك أيام الجمع ولا لدروسك الدينية، لأنهم بلا أخلاق، ولا يريدون لرجل فاضل مثلك أن يتحدث عن القيم والأخلاق. نحن سنتكفل بحمايتك ونصبح أصدقاء، وهذه عربون صداقة جديدة.
وضع مفاتيح سيارة على الطرابيزة أمام جدي. تفاجأ جدي وصدم لهذه المفاجأة, بل صدم الجميع، تابع أبو عاصي:
ــ سيارة فولفو أحدث طراز، لم تمشِ مترا واحدا، عربون صداقة نتمنى أن تدوم للأبد.
نهض أبو عاصي وأبناؤه، كما نهض جدي وأخوالي وأبي, بدأ أبو عاصي بمصافحة جدي والآخرين وتقبيلهم وفعل الأبناء نفس الشيء. حاول جدي أن يقول أو أن يعترض قاطعه أبو عاصي:
ــ لا نريد أن نسمع أي اعتراض على السيارة، وقسما بالله سأحرقها إن لم تأخذها, ثم نحن سوف نكون في مقدمة المتبرعين للمركز الإسلامي,سجل عندك عشرة آلاف دولار ستصلك غدا.
هكذا أرسيت دعائم صداقة غريبة، بل غير مفهومة بين تجار مخدرات وأصحاب بيوت دعارة ومجرمين وبين رجل دين يدير مركزا ضخما للإسلام وله سمعته وكلمته في أوساط الجالية المسلمة في السويد وأوروبا.
حدث هذا عام 2002، لكن جدي بقي بعيداً عنهم وحذراً لمدة عام، رغم محاولات أبي عاصي المتكررة للتقرب من جدي.
في تلك السنة حصلت حروب صغيرة أو مناوشات، كان هدفها جدي, آخر تلك الحروب كنت أنا الوسيلة.
في أحد أيام الصيف، بينما كنت ذاهبا من البيت إلى حيث جدي في مكتبه، اعترضني شريف القوي، وراح يتحدث إلي، ويسألني بعض الأسئلة عن دراستي, ثم بدأ يمدحني، يمدح شجاعتي وبأنني شاب قوي لا يخاف من أحد. ثم طلب مني أن أحمل كيسا أسود صغيرا لا يتعدى وزنه مئة غرام وحجمه بحجم الكف، لأضعه في مكان يبعد ثلاثة كيلومترات. مقابل تلك الخدمة عرض عليَّ ألف كرونة. وافقت أن أنفذ تلك المهمة، ولكن قبل أن يعطيني الكيس رافقته إلى المكان المقصود، وقال لي عندما وصلنا، وأشار إلى شجرة:
ــ عندما نعود إلى الحي وأعطيك الكيس، ضعه هنا, عليك أن تكون ذكيا ولا تلفت انتباه أحد.
سألته:
ــ ماذا يحتوي الكيس؟
قال:
ــ لا تسأل. سوف أعطيك المزيد من النقود إن نجحت في هذا الاختبار…
قلت:
ــ حسناً
لقد أطعت أوامره دون تفكير ودون تردد. كان يتمتع بشخصية قوية، مؤثرة على من حوله، شخصية قيادية، قادر على اتخاذ قرارات مصيرية في لحظات. لا يسعى إلى إقناع الآخرين، بل يطلب منهم طلبا وعليهم التنفيذ, انصعتُ لأمره هذا دون أي اعتراضات.
عدنا إلى الحي، وأعطاني الكيس وألف كرونة. لم أفكر في محتويات الكيس، إلا أنني خمنت أنه نوع من المخدرات، كان ملمسه ناعما. رحت أفكر في الألف كرونة، وهو مبلغ كبير لمراهق مثلي. هل اشتري ثيابا، أم أذهب إلى المطاعم والسينما؟ خيارات كثيرة رحت أفكر بها، ولكن لم أفكر ولا للحظة في محتويات الكيس. ذهبت إلى المكان المحدد، ووضعت الكيس أسفل الشجرة بطريقة لا تثير الشبهة. ما إن ابتعدت عن المكان خمسين مترا حتى رأيت ” شريف القوي ” يخرج من خلف كشك موجود على الرصيف المقابل. نظرت إلى الخلف، إلى الشجرة، حيث وضعت الكيس، رأيت رجلا ينحني ويلتقط الكيس ويذهب باتجاه آخر. التفت بسرعة إلى شريف وأنا أشير إلى الرجل، وكدت أن اصرخ، إلا أن ابتسامته طمأنتني، وقال:
ــ أنت شجاع، لقد نجحت في الاختبار.
سررت لهذا الإطراء الذي صدر من رجل قوي، يهابه جميع رجال الحي. رجل كلمته نافذة، ويملك الكثير من النقود. أخرج سيجارة من جيبه وقدمها لي وقال:
ــ خذ، دخن واستمتع.
قلت:
ــ ما هذا؟
قال بشيء من الحدة:
ــ عندما تكون معي، تعلم ألا تسألني.
ثم أخرج خمسمئة كرونة وقال:
ــ خذ هذه أيضا, تستاهل لأنك شجاع.
أخذت النقود، بينما هو انتقل إلى الرصيف المقابل، ثم بعد لحظات أتت سيارة جيب دفع رباعي، أقلّته وتركت خلفها غيمة من الدخان الناتج من الاحتكاك العنيف للعجلات بالإسفلت، وصوت هذا الاحتكاك. شعرت بالزهو والقوة وبأنني شجاع وقادر على فعل أي شيء. لم أشعل السيجارة، خبأتها كي أتباهى بها أمام أقراني من المراهقين، لأنني خمنت أنها سيجارة مارغوانا. في ذلك الوقت لم أكن قد دخنت المارغوانا ولا حتى التبغ العادي.
عندما عدت إلى الحي، كان جدي وأبي وأمي وكل الأقرباء ينتظروني. كانوا خائفين جدا ومتوترين جدا، إلى درجة أن جميعهم راح يتحدث معي ويوبخني ويهددني, جميعهم كانوا يتكلمون دفعة واحدة, أوقفهم جدي ثم طلب منهم أن يذهبوا ويتركونا لوحدنا، ثم ذهبنا إلى مكتبه. أول سؤال سألني جدي عن الشخص الذي كلفني بالمهمة، ثم أمرني أن أذهب معه. خرجنا من المكتب، ولم أعرف الوجهة التي نقصدها، إلا أنني في الطريق عرفت أننا ذاهبان إلى بيت أبي عاصي, وهذا ما كان, هناك استقبلنا أبو عاصي بترحاب شديد. ثم سأل:
ــ خير يا حاج قاسم؟
قال جدي:
ــ من أين سيأتي الخير، وابنك شريف تمادى كثيرا، إنه يستخدم حفيدي في أعماله الخطرة وهذا خط أحمر بالنسبة لي. أعرف أنك أنت من سمح له، وأعرف أن هذا بسبب الخلاف الذي حصل أخيرا بيننا.
قاطعه أبو عاصي وهو ينظر إلي:
ــ من الأفضل أن نتحدث لوحدنا, قل لماهر أن يذهب.
نظر جدي إلي، وأدرك أنه ارتكب خطأ لأنه جلبني معه إلى هذا المكان، وأسمعني كلاما لا يجوز أن اأسمعه. أشار بيده وقال:
ــ اذهب إلى البيت.
ماذا يعني كل ذلك، وما الذي جعل جدي يخاف، ولماذا لا يريد أبو عاضي أن اسمع ما سوف يدور بينهما!؟ كل ذلك جعلني أخاف، وأشعر بالقلق مما جرى وسيجري. خرجت من بيت أبي عاصي وأنا أشعر أنني خرجت من مكان خطر. لم أذهب إلى البيت بل رحت أدور في شوارع الحي لعلني أشعر بالراحة.
أعتقد أن هذا الاجتماع أسس لشراكة هامة جدا بين جدي وعائلة القوي. شراكة جعلت عائلة القوي تتخلى عن تجارة المخدرات والدعارة، وتحولوا إلى تجارة المواد الغذائية. إذ بعد هذا الاجتماع حدث تحول في نشاط عائلة شريف القوي، وتحول في العلاقة بين جدي وبينهم. أصبحوا أصدقاء وتكفل جدي بغسل أموالهم، أموال المخدرات والدعارة وتحويلها إلى أموال حلال. تبين فيما بعد أن العلاقة أصبحت حاجة ماسة ومفيدة للطرفين. هم بحاجة إلى غسل أموالهم، أموال المخدرات والدعارة. والأهم من ذلك أن غسيل الأموال القذرة تمت من قبل رجل دين له مكانته وتأثيره على المجتمع. من جهة أخرى كان جدي بحاجة إلى قوتهم، وجعل تلك القوة الغاشمة لصالحه، إضافة إلى الأموال الضخمة جدا التي سوف يستفيد منها بسبب هذه العلاقة. هذه الخطوة الهامة جدا بالنسبة لجدي ولهم، جعلتهم من كبار تجار المستوردين للمواد الغذائية من مختلف دول العالم، تحت اسم شركة عملاقة ” شركة حلال العالمية لتجارة المواد الغذائية ” تلك الشركة التي غزت كل بلدان أوروبا.
أنهيت الورقة الأولى وأنا سعيد بهذا الإنجاز. استغرقت ثمانية أيام. أعتقد أنني قادر على التعبير عن نفسي، لذلك قررت أن أكتب بشكل يومي في الصباح إلى أن يحين موعد الغداء. نظرت إلى الساعة، ما زال الوقت مبكرا للغداء، سوف أعيد قراءة ما كتبت إلى أن يحين موعد الذهاب إلى المطعم.