الناس نيوز – ممدوح حمادة
عندما دخل الغريب إلى القرية يحمل حقيبته الجلدية البنية، وجد الشوارع شبه خالية، ليس فيها حركة إلا لزوبعة صغيرة أثارتها رياح خفيفة سرعان ما خمدت وتبدد غبارها، وبعد أن سار أمتارا قليلة لمح خلف المنعطف عجوزا يجلس على حجر أمام بوابة أحد المنازل، فتوجه إليه فورا وبعد أن رمى السلام عليه وقام ذلك بالرد، سأله:
– هل تعرف منزل المختار ؟
قهقه العجوز طويلا ولكي لا يصدر لضحكه صوت فقد كان يبتلع قهقهته ويغص فيها بشكل جعله يسعل في نهاية المطاف سعالا جافا كادت عيناه تخرجان من محجريهما لشدته، وبعد أن تمالك العجوز نفسه وأخذ يمسح الدمع الذي انبثق من عينيه إثر السعال، وهنا سأله الغريب عما يضحكه فتلفت العجوز حوله ورد هامسا:
– لا يوجد لدينا مختار في القرية.
– ولكنهم أبلغوني أن هناك مختارا – وأخرج ورقة وقرأ اسمه- اسمه مرجان مسلم ضرغام.
تلفت العجوز فيما حوله من جديد وقال هامسا:
– يوجد مرجان مسلم ضرغام، ولكنه ليس مختارا.. فالمختار يتم اختياره، أما مرجان مسلم ضرغام فقد قام بتعيين نفسه بنفسه، فكيف يكون إذا مختارا وهو ليس بمختار؟
– حسنا أين بيت هذا الشخص؟
– تابع السير حتى تنبح الكلاب.. فقد ربى حوله الكثير منها، وكلها شرسة ومسعورة، فإن عضك كلب في مؤخرتك لا تقل إن العجوز لم يحذرني.
شكره الغريب وتابع طريقه مفكرا، هل يتوجه إلى بيت مرجان مسلم ضرغام الذي أصبح لديه نفور منه بعد أن قال العجوز ما قاله، أم يتوجه إلى المدرسة التي حضر لإدارتها؟ ثم قرر التوجه إلى المدرسة.
في المدرسة التقى أولا بالأستاذ يوسف الذي جلب له ملفات الطلاب بناء على طلبه، طبعا بعد أن شرب الشاي وتعرف على غرفته التي سيقيم فيها وغير ذلك من التفاصيل غير المهمة، وكان أول ما لفت نظر الغريب في الملفات التي راجعها على عجل، تدني مستوى الطلاب وتساءل مستغربا عن سر ذلك فتلفت الأستاذ يوسف فيما حوله وهمس له وعيناه تراقبان الباب:
– لا سر في ذلك، طالما أن الأمر والنهي بيد مرجان مسلم ضرغام، فلن تقوم للعلم قائمة في هذا البلد.
ثم صمت بشكل مفاجئ عندما دخل الأستاذ محمود الذي رحب بالمدير الجديد وتمنى له إقامة سعيدة في القرية، وردا على سؤال المدير الجديد حول مستوى الطلاب المتدني أجاب الأستاذ محمود بنبرة تدل على عدم أهمية الموضوع:
– بكل بساطة لأن طلابنا ونحن لا نشعر بالحاجة للعلم، فعندنا مرجان مسلم ضرغام الذي قال كل ما يمكن قوله في جميع المواضيع، وإذا تبادر إلى ذهنك سؤال فما عليك إلا مراجعة أقوال مرجان مسلم ضرغام التي طليت جميعها على جدران القرية لتسهيل الحصول عليها.
من أجل التعرف على القرية أكثر تجول المدير الجديد في القرية ليلا فوجدها أيضا شبه خالية وشوارعها معتمة لولا بعض الأضواء الخفيفة التي تنبعث من نوافذ يتهامس خلفها سكانها بكلمات لم تكن واضحة، وبعد فترة من التجول التقى المدير بشخص تبادل معه أطرافِ الحديث بعد أن تعرف إلى أنه المدير الجديد، وعندما سأله المدير عن سبب عدم وجود الكهرباء قال له الشخص بنبرة حزينة:
– طالما الحل والربط بيد مرجان مسلم ضرغام فإن حياتنا لن يدخلها الضوء أبدا، عن أي كهرباء تتحدث يا أستاذ ومرجان مسلم ضرغام جاثم على صدورنا.
ثم اختفى الرجل في الظلام وكأنما لكي لا يحفظ المدير صورته، بينما تابع المدير تجوله، ومن باب الفضول وجه نفس السؤال عن عدم وجود الكهرباء لشخص آخر التقاه فرد هذا بصوت قوي مفعم بالثقة:
– وما حاجتنا إلى الكهرباء في وجود المختار مرجان مسلم ضرغام، الذي ينير سناه لنا الطريق وحول لنا الظلام إلى نور؟
وأطنب الرجل في الحديث عن نور مرجان مسلم ضرغام حتى قاطعه المدير مستأذنا قبل أن يكمل مديحه للمختار، وسمع صوت زفيره وهو يتنفس الصعداء خلف ظهره.
تساءل المدير مرة عن سبب انتصار الهكسوس على المصريين في معركة ابتكرها من خياله وتاريخ حدده قبل ألفي عام على وجود المختار مرجان مسلم ضرغام فأجاب الذين يكرهون مرجان بشكل آلي بعد أن تلفتوا فيما حولهم طبعا:
– بسبب خيانة مرجان مسلم ضرغام للمصرين، لا يمكن أن يكون هناك سبب آخر.
بينما أجاب المحبون دون التلفت فيما حولهم:
– لأن المصريين لم يلتزموا بنصائح مرجان مسلم ضرغام.
وهكذا كان مرجان مسلم ضرغام محور أي حديث يفتحه المدير مع الناس، أشخاص يمدحونه إلى درجة التأليه وأشخاص يمقتونه إلى درجة الحقد، ومن باب الدعابة طرح مرة لغزا يستخدم عادة للتندر فقال:
– صحن اللبن في الطاقة ليس هو بجمل وليس هو بناقة فما هو؟
فرد الحاضرون جميعا:
– المحمض النتن أبو صنّة مرجان مسلم ضرغام.
وفي الجمع الآخر أجاب الجميع بدون تردد:
– إنه مرجان مسلم ضرغام الذي يشرب مع الماء العكر.
وأخيرا قرر المدير التعرف إلى مرجان مسلم ضرغام ، فظل يسير – كما نصحه العجوز الأول- حتى نبحت الكلاب فوجد بوابة معدنية عشش العنكبوت على زواياها وفتحاتها، كتب عليها بطلاء تقشر حتى بات من الصعب قراءته (المختار مرجان مسلم ضرغام)، وعندما قرع البوابة استعر النباح من الداخل بشكل مرعب، ولكنه ظل يقرع حتى جاءه صوت من الداخل لعجوز لم ير وجهها ولكنه تخيلها على شكل ساحرة شريرة، سألته عن مبتغاه فأخبرها أنه يريد مقابلة مرجان مسلم ضرغام ، فأكدت له المرأة أن مرجان مسلم ضرغام قد مات منذ عشرين عاما، ولم يعد له وجود، فعاد أدراجه إلى المدرسة مستغربا.
وعندما قال للأستاذ محمود إن مرجان مسلم ضرغام قد مات صرخ الأستاذ محمود في وجهه بغضب ممزوج بنشيج:
– مرجان مسلم ضرغام لا يموت، مرجان مسلم ضرغام أقوى من الموت.
وخرج غاضبا من الغرفة قبل أن يتفوه المدير بحرف جديد، وعندما واجه المدير الأستاذ يوسف بنفس الحقيقة حول موت مرجان مسلم ضرغام ، تلفت الأستاذ يوسف فيما حوله كالعادة وهمس للمدير:
– خديعة وكمين لكي يقع به الأغبياء.
لم يتمكن المدير من قراءة ما بين السطور وطلب مزيدا من الشرح فشرح له الأستاذ يوسف برحابة صدر:
– مرجان مسلم ضرغام لم يمت.. لقد أشاع هذا الخبر لكي يعرف أعداءه من أنصاره، ولكن هيهات، فلن يتمكن من ذلك ابدا ، فخبثه لن يتفوق على ذكاء شعبنا، ولو بقي مئة عام يتصنع الموت سنبقى مئة عام نتصنع حبه..ولن نجعله يتمكن من اكتشاف أعدائه أبدا، ليس في قلبه رحمة يا رجل.
– ولكن هذا غير صحيح .. لقد عشش العنكبوت على بابه الذي لم يفتح منذ زمن بعيد.
رد الأستاذ واثقا مما يقول ولكن الأستاذ يوسف رد وقد ظهر القلق في نبرة صوته :
– وهذه خدعة أخرى من خدعه، إنه لم يمت، لم يمت .
– ماااااااااات
صاح الغريب مشرئبا بعنقه واضعا وجهه في وجه الأستاذ يوسف فرد ذلك بيأس:
– لم يمت .
– مات.
– – لم يمت
– ماااااااااااااااااااااااااااااااااااات
وخرج الغريب إلى الشارع وأخذ يجوب شوارع القرية ويصيح:
– أيها الناس، مرجان مسلم ضرغام مات .. مرجان مسلم ضرغام مات .. مات .. مات
وعندما وصل إلى ساحة القرية اعتلى صخرة هناك وتابع الصراخ :
– مرجان مسلم ضرغام مات.. مات.
اختفى جميع رواد المقهى الذي هناك في الداخل وأغلق صاحب المقهى، المقهى عليهم وتبدد الناس من الشوارع ولا يعرف أحد كيف اختفى الغريب الذي كان واقفا على الصخرة وعندما انقطع صراخه عاد رواد المقهى إلى طاولاتهم وعاد زهر النرد يصدر طقطقته المعتادة، وفتحت بوابة معدنية قريبة وأطلت عجوز يبدو أن حركتها الثقيلة لم تسمح لها بالوصول إلى البوابة قبل الآن وقد تناهى إلى سمعها كلمة (مات) وسألت النادل :
– تهيأ لي أن أحدهم يصيح أن أحدا ما قد مات، من الذي مات ؟
– الغريب مات .
رد النادل باختصار وتابع تلبية الطلبات بينما عقبت العجوز :
– الحمد لله .. إنه الغريب وليس من جماعتنا.
ثم أغلقت بوابتها الصدئة التي أصدرت صريرا معدنيا حادا وعادت إلى سكونها الذي أقلقه أحد ما .