دير الزور- صحيفة جسر – الناس نيوز :
بعد أشهر قليلة من انطلاق “الثورة السورية” ظهرت بلدة حطلة بريف دير الزور، كبؤرة حمل أهلها السلاح واصطفوا إلى جانب نظام الأسد على نحو طائفي، في بيئة كانت تعد حتى تلك اللحظة متجانسة طائفيا وتنتمي بالمطلق للمذهب السني، ولا تعاني من أي توترات مذهبية ، وفق تأكيدات أهالي المنطقة .
وفي الواقع كانت تلك الظاهرة المستجدة، هي ثمرة جهود وأموال إيرانية، بُذلت وأنفقت بدون ضجيج، لنشر التشيع ببطء، على مدى ثلاثة عقود في الجزيرة السورية، وهو المشروع الذي حصل اليوم على دفعة قوية مع سيطرة الميليشيات الإيرانية على مساحات واسعة من محافظتي دير الزور والرقة، ومباشرة عملها “التبشيري” على نحو علني، مدعوم بموارد مالية كبيرة، وسلطات واسعة، وسط ظروف هي الأسوأ على الإطلاق، للسكان المحليين المستهدفين بهذا المخطط.
خطة ممنهجة
بدأت عملية التشيع في الجزيرة السورية على نحو فردي خجول في مطلع ثمانينات القرن الماضي، عندما بدأ عنصر في مخابرات الأسد ينحدر من بلدة حطلة من عائلة الحمادي ( حسب شهادات أهالي المنطقة ) ، بالترويج للمذهب الشيعي مطلع الثمانينيات، وسمحت له حصانته كعنصر أمن بالتحدث عن الأمر بأريحية، وانضم إليه اثنان من أقاربه، هما صهره من عائلة المعيوف، وقريبه الآخر من عائلة الرجا، اللذين سرعان ما أصبحا في الواجهة وتوارى عنصر المخابرات، بعد أن مهد لهما الطريق( الاسماء هنا من حديث شهود أهالي المنطقة ) .
في البداية كان كل من المعيوف والرجا، يتحدثان عن التشيع مقروناً بذكر الحسين، مستغلين تعظيم تلك الشخصية في منطقة الجزيرة، خاصة أن عدداً من أبرز قبائل المنطقة تقول بالانتساب إليه “…” .
نقطة توضيحية : الناس نيوز في هذا التقرير تستعرض معلومات شهادات الاهالي هناك المستندة إلى معرفتهم بواقعهم … ولا تتبنى وجهات النظر ، وتنشر الآراء المتنوعة في حال توفرها .
ثم تم تسويغ انضمام شخص هنا وآخر هناك بذريعة الحاجة المادية ، إذ إنّ إيران كانتْ تقدم لهم رواتب جيدة، وتمنحهم هبات لإقامة أنشطة وبناء حسينيات، كما أنّ هؤلاء كانوا يتمتعون بالحظوة النسبية لدى أجهزة النظام المتحالف مع طهران.
يوماً بعد آخر تراكمت ثروات الاشخاص المنخرطين في هذا التوجه ، وبدأتْ فئات أكثر اتساعاً من المحتاجين والانتهازيين بالتوجه نحوهما، وبدأ يظهر في الأجيال الجديدة ميلٌ اعتقادي راسخ بالمذهب الشيعي، بسبب التلقين المبكر، والإرساليات للدراسة في إيران، ولم تنقضِ عقود ثلاثة إلا وظهر أول المعممين في المنطقة، مع جيل من المؤمنين العقائديين، وهم من حملوا السلاح في وجه عشائرهم وأهلهم، في بلدة حطلة، وتسببوا في صدام عنيف، نجم عنه عشرات القتلى، قبل أن يتم طردهم نحو مناطق النظام، لكنهم عادوا إليها لاحقا مع الميليشيات الشيعية، وثبتوا أقدامهم فيها على نحو يبدو أنه نهائي هذه المرة. على ما يقول الاهالي .
حال المشروع الآن
تسيطر الميليشيات الإيرانية على كل المنطقة الواقعة بين مدينة دير الزور والحدود العراقية أكثر من غيرها ، وتنتشر في محافظات الرقة وحلب وحمص وريف دمشق ودرعا والسويداء والقنيطرة، وتعتبر عملية استقطاب المتشيعين المحليين مهمتها الأولى.
ومن أجل تثبيت مكاسبها، تحول وجودها إلى حضور ملموس وصلب، سواء من خلال المقرات العسكرية التي يمكن أن يتوجه إليها أي راغب بالتطوع وهو آمن تماماً، أو من خلال أماكن العبادة التي تؤكد هيمنة المتشيعين وقوة حضورهم، أو من خلال مؤسسات دعم المجتمع، وهي الورقة التي يتم التلويح بها للفئات المعوزة، حيث يتم وضع “الفكرة” تحت أنف كل شخص من السكان المحليين: إذا أردت التعيش فعليك بالتشيع.
ثمة اليوم ما لا يقل عن 50 تنظيماً مسلحاً للشيعة والمتشيعين المحليين تنتشر في مناطق السيطرة والنفوذ الإيراني وفق الاحصاءات المعلنة غير الرسمية ، أبرزها الحرس الثوري الإيراني، وميليشيات فاطميون وزينبيون المجلوبة من إيران، وحزب الله العراقي القادم من العراق، وحراس القرى المختلطون من السكان المحليين والميلشيات المجلوبة من الخارج، ولواء الباقر الذي يضم متشيعين من قبيلة البكارة في ريف حلب ودير الزور على وجه الحصر ولواء ابو الفضل العباس وحزب الله وغيره الكثير على يقوله الاهالي هناك .
تتلخص مهمة هؤلاء بفرض هيبة التشيع والمتشيعين في المنطقة، وإشعارهم بالأمان والاستقرار، فيما ظهرت نحو 25 حسينية في مجمل هذه المنطقة، معظمها في ريف دير الزور، ومهمتها العمل على الجانب الاعتقادي للمتشيعين وترسيخه، خاصة بالنسبة للأجيال الجديدة والأطفال، فالقائمون على المشروع يعلمون جيداً أنّ دوافع النسبة العظمى من المتشيعين الجدد هي مصلحية انتهازية، لكنّ الأمر لنْ يكون كذلك بالنسبة لأطفالهم والأجيال الشابة، التي يمكن أن تعتنق المذهب بالفعل لدوافع إيمانية، وهؤلاء هم البذرة الحقيقية التي يمكن أنْ يعول على ازدهارها، ولأجل تحقيق هذا الهدف بدأت عملية خلق الرموز والمرجعيات، مثل البحث عما يمكن وصفه بالمزارات المقدسة، مثل مزار عين علي في منطقة القورية، وتحويل مسجد قديم يضم رفات “أبي عابد” ، المعروف أنّه من آل البيت ، فيما بدأت نتائج البعثات التعليمية إلى إيران بالظهور على شكل رجال دين متمكنين، بينهم معممون.
ويقدر مطلعون من السكان المحليين، عدد المنتسبين للميليشيات الإيرانية في مجمل مناطق النفوذ سالفة الذكر، بنحو 15 ألف شخص، ويرتفع عدد المشمولين بالنشاط التبشيري إلى أكثر من 60 الفاً، إذا أخذنا بعين الاعتبار عائلاتهم والمستتبعين في النطاق المدني. وتحمي وتنفق إيران على كل هؤلاء بانتظام وحرص شديدين، وتسعى جاهدة لزيادة عددهم. وفق تأكيدات من اهالي المنطقة وهو الأمر الذي لا تنفيه إيران .
أساليب استقطاب تحاكي الغرائز الرئيسية
ترتكز منهجية طهران في تشييع السكان المحليين على تلبية الاحتياجات الكبرى لهم، وهي الأمان والاحتياجات المعيشية والخدمية. إذ إنها سارعت منذ سيطرتها على مناطق واسعة من البلاد إلى الإعلان عن حماية كل من يلوذ بها وبميليشياتها، وأصبح كل من ينتسب إلى ميليشياتها في منأى عن قبضة أجهزة مخابرات النظام، وعلى هذا الأساس انضم لها المئات من مقاتلي الجيش الحر السابقين ذاتهم، ودون أنْ يشترط عليهم التحول إلى المذهب الشيعي، وكانت تلك سياسة ناجحة، إذْ تمكّن الدعاة والمبشرون لاحقاً، وبالأساليب الناعمة، من استمالة هؤلاء وتحويلهم عقائدياً، حتى إنْ لم يعلنوا ذلك على الملأ. والأهم من ذلك أنّ الدعاة والمبشرين، استطاعوا الوصول إلى بيوت وعائلات وأطفال منْ تم استقطابهم، عبر المنح والإعانات والهدايا والأنشطة المدفوعة الثمن، مستغلين الوضع المعيشي المتردي لهم، بعد سنوات طويلة من الحرب والتدمير، وهم في الواقع الهدف الرئيسي لعمليات التشيع.
وبطبيعة الحال تنطوي أساليب التبشير على إبعاد أخرى، منها محاكاة الانتماء القبلي لبعض أبناء العشائر الذين يدعون الانتساب لآل البيت، ودغدغة حس المغامرة والتفرد لدى الشبان والمراهقين، ويستخدم الجنس احيانا كأحد وسائل الجذب من خلال إتاحة فرصة ممارسته على نحو شرعي لمن يعلن تشيعه من خلال ما يعرف بزواج المتعة.
لكنْ يبقى الاعتماد على السلطة الرسمية لأجهزة نظام الأسد، كمسهل وداعم للعملية، هو البند الأبرز في خطة نشر التشيع، إذ يكاد لا يخلو جهاز من أجهزة النظام، من وجود ممثل لإيران ومشروعها، يحاول ما أمكنه ذلك استغلال السلطة الرسمية ، لدعم المشروع وزيادة فاعليته، ومن أجل استمرار نبذ وتهجير وإبعاد العناصر التي يمكنها أنْ تواجه هذا المخطط، من خلال استمرار عمليات الملاحقة للنشطاء والفاعلين الذين لا يمكن استقطابهم، ومنع عودة من نزح منهم، بل ومنعهم من تقديم المعونة للمجتمع المحلي، لإبقائه رهن الحاجة لإيران ومؤسساتها المختلفة. كما تعتمد طهران على فئة واسعة من شيوخ القبائل، ووجهاء المجتمع، للترويج لدعاويها، وفرضها وشرعنتها، من خلال إقرار هؤلاء الواجهات الاجتماعية بتلك الدعاوي والانخراط فيها، أو حتى من خلال الصمت عن النشاط “التبشيري” ودعمه ضمنياً.
لماذا شمال وشرق سوريا
ينبع اهتمام إيران بمنطقة الجزيرة السورية من موقعها في منتصف الطريق البري إلى البحر المتوسط، فالمخطط الإيراني التوسعي يصدم بهذه الكتلة السكانية المناهضة له بين العراق ومناطق نفوذ إيران في لبنان والساحل السوري، ويقطعها بشكل كامل، لذلك تتخذ عملية اختراقها وإيجاد ممر عبرها نحو الغرب، أولوية إيرانية، وقد أتاحت ظروف الحرب السورية فرصة لم تكن تخطر لطهران على بال، وسارعت لاغتنامها موجهة رجلها الأقوى في ذلك الحين “قاسم سليماني” ليكون على رأس المحاربين لانتزاع السيطرة على ضفاف الفرات الغربية، الذي توج بظهور سليماني المنتصر في مدينة البوكمال، كعلامة فارقة تشير إلى اكتمال المرحلة الرئيسية والحاسمة، وإعطاء إشارة البدء للعمل الطويل الهادئ والعميق لترسيخ النتائج وجعلها غير قابلة للانعكاس فيما لو تبدلت الرياح بفعل أي عامل مستجد.