ماذا يعني أن تكون الدولة أيديولوجية؟ يعني ببساطة أن تبني سياساتها الداخلية والخارجية انطلاقاً من أيديولوجيا رسمية، وتجعل منها أساساً لتصوراتها المستقبلية.
وليس هذا فحسب، بل وتسعى لنشرها في محيط لديه قابلية لتقبل أيديولوجيتها الرسمية هذه، وتُجترح الأساليب التي من شأنها تحقيق ذلك حتى لو أضر ذلك بها كدولة، لأن الأيديولوجيا متقدمة على المصلحة.
كان الاتحاد السوفييتي أكبر دولة أيديولوجية في العالم، وكانت مصر الناصرية هي الأخرى دولة أيديولوجية داخلياً وخارجياً، وقس على ذلك دولة البعث في العراق. وكانت هذه الدول صادقة في تبنيها الأيديولوجيات وتعمل من وحيها.
على عكس دولة البعث في سوريا التي لم تكن الأيديولوجيا البعثية إلا قشرة خارجية لأيديولوجيا ضيقة وخفية، قائمة على توفير سبل البقاء في السلطة حتى لو أدى ذلك إلى تدمير البلاد والعباد.
ونحن نعيش في الشرق اليوم بقايا الدول الأيديولوجية: إيران ذات الأيديولوجيا الدينية الشيعية، وسلطة حماس في غزة ذات الأيديولوجيا “الإخوانية”.
وتركيا الدستورية ليست دولة أيديولوجية، بل السلطة الحاكمة هي السلطة الأيديولوجية وقابلة للتغير وفق قانون الانتخابات التركية. وقس على ذلك السلطة الأيديولوجية الطائفية الحاكمة في العراق من دون الإعلان عن أنها أيديولوجية.
وتعتبر إسرائيل دولة أيديولوجية منذ تأسيسها، فالصهيونية هي العصبية الحاكمة في إسرائيل، لكنها ليست أيديولوجية تبشيرية كالدولة الإيرانية.
ولعمري إن خطر الدولة الأيديولوجية الإيرانية كبير جداً.
فإيران هي الدولة الوحيدة التي تعلن بأنها دولة إسلامية، شيعية ولديها حرس ثوري لتصدير الأيديولوجيا نظرياً وعملياً، وعلى رأس السلطة يقف الحاكم بأمره، وحول هذه السلطة ميليشيات مسلحة في لبنان والعراق وسوريا واليمن، إلى جانب بعض التنظيمات غير العلنية في دول أخرى.
تقوم استراتيجية الدولة الأيديولوجية الإيرانية في الشرق العربي على زعزعة الدولة المركزية، أولاً وقيام ميليشيات مسلحة تتحول إلى سلطة تساوي في قوتها السلطة المركزية.
فحزب الله في لبنان الآن هو سلطة حاضرة وشبه مستقلة، إلى جانب سلطة الدولة الضعيفة، بل وأقوى من سلطة الدولة، فخلال ساعات احتل هذا الحزب بيروت الغربية لفرض شروطه على السلطة، وقس على ذلك العراق الذي تتحكم فيه الآن ميليشيات تأخذ أوامرها من طهران، وليس بخافٍ على أحد ما فعله الحوثيون في اليمن بفضل الدعم الإيراني له، وما تقوم به إيران في سوريا شبيه جداً ما قامت به في العراق، وهكذا.
وكل الدول الداعمة للحركات “الإخوانية” في المشرق، والتي تسعى للوصول إلى السلطة بكل الطرق بما فيها الطرق العنفية، فإنها بهذه السياسة الأيديولوجية تقوي من هذه الحركات مادياً ومعنوياً، وتزعزع الهوية الوطنية، ذلك لأن الأيديولوجيا “الإخوانية” القائمة على فكرة الحاكمية لله هي أيديولوجيا تعادي الوطنية باسم الإسلاموية.
وليس من الغرابة بمكان أن نجد بأن هناك لغة مشتركة أحياناً بين دولة ولاية الفقيه والحركات “الإخوانية” كحماس مثلاً. وهذا يعود إلى وحدة الذهنية الأيديولوجية.
فالذهنية الأيديولوجية مهما اختلفت مضامينها الشعاراتية، تظل ذهنية متشابهة تقوم على وهم بأن الأيديولوجيا تكسر رأس التطور الموضوعي للمجتمعات.
وعندي أن المصالح المشتركة للعرب تتطلب العمل بسياسة تحقق الاستقرار والتنمية والمواطنة يجب أن تتجسد باستراتيجية عامة طويلة الأمد. استراتيجية تفعل فعلها في الداخل، ثقافياً واقتصادياً تنموياً وتفعل فعلها في الخارج بمواجهة لا هوادة فيها للخطر الإيراني ورؤوسه المتعددة في بلادنا.
إذا لا تقوم نجاحات السياسية الإيرانية في بلادنا، كما دللت التجربة إلى بتحطيم مركزية الدول وتحطيم احتكارها للقوة عبر تأسيس الميليشيات المدمرة لمفهوم الدولة أصلاً.
أحمد برقاوي