[jnews_post_author ]
في الأساس التاريخي لنشأة الديمقراطية التشاركية، يعزو الفقه الدستوري نشأتها الأولى على يد النخب المحلية والتكنوقراط، الذين استطاعوا أن يبلوروا هذا النوع من الديمقراطية، انطلاقاً من خصوصية وحاجات المجتمعات المحلية، من خلال صياغة ثقافة ديمقراطية متطورة، تركز على الطبقة الوسطى كضابط لوعي مجتمعي محلي، وبما يساعد المواطنين في مجتمعاتهم على حل مشاكلهم اليومية في مواجهة شمولية واستبداد السلطات المركزية، قبل أن تتحول إلى قوى ضاغطة وفاعلة – سواء في الشأن العام أو المحلي- في تصويب فكرة اللامركزية الفعالة والمتجاوبة مع المركز، في إطار دستوري يوفق بين مبدأي السيادة الوطنية وسيادة الشعب، وسلطة الشعب في المناطق، في غاية نهائية مؤداها، شعب قوي ومتناغم في إطار دولة قوية موحدة ومستقلة.
ظهرت الديمقراطية التشاركية كبديل لعجز ومحدودية الديمقراطية التمثيلية في تحقيق السياسات العامة، وحل مباشر للمشكلات التنموية، وتقليص الفوارق الاجتماعية، والتصدي للتأثيرات الاقتصادية. فارتبطت– استناداً لتطوراتها التاريخية- بفكرة الحكم الرشيد عن طريق إعطاء المواطنين في المجتمعات المحلية حق المراقبة والمشاركة و المحاسبة، قبل أن تصبح آلية دستورية تتعلق بإعطاء هؤلاء نوع من التشاركية في صناعة القرار على الصعيد المحلي وربطه بالسياسات العامة للبلاد. وبالتالي إيجاد مستوى من مستويات المشاركة في صناعة القرار عن طريق المجالس التمثيلية المنتخبة محلياً، التي تضطلع – بداهةً- بقدرتها أكثر من غيرها في معرفة حاجاتها وخصوصياتها، بدءاً من إيجاد آلية قادرة على تحقيق المشاركة السياسية والإنماء المتوازن، وبما يحقق عدم تركيز السلطات أو الخدمات العامة – بشكل مطلق- في المدن المركزية الكبرى، الأمر الذي يحول دون الانقسام المجتمعي، كمولد من مولدات الصراعات الداخلية، ويحقق التنمية المستدامة على المستوى المحلي. وبالتالي تعزيز الولاء للدولة من خلال المشاركة في السلطة، ما يحول دون توسع الهوة بين السلطة والمجتمع.
لقد بررزت الديمقراطية التشاركية كردة فعل على فشل الديمقراطية التمثيلية ببعدها السياسي الكلاسيكي، الذي اضطلع بإيصال حكومات بأبعاد إيديولوجية عن طريق صناديق الاقتراع، في نأي واضح عن ماهية الديمقراطية وغاياتها التي تعني “حكم الشعب”، وشكلاً من أشكال الحكم الذي يشارك فيه جميع المواطنين، مشاركة فعالة، لا تتوقف عند الحقوق السياسية وحسب، بل تتعداها إلى مشاركة المواطنين ( أفراداً أو جماعات) في كل النواحي الخدمية والاقتصادية والتنموية. وبالتالي إعطاء المواطن نفسه الحق في الوقوف عند حاجاته والمطالبة بها، في إطار ما يُعرف بـ ” حق الالتماس في المبادرة الشعبية” كآلية تعمل عليها الديمقراطية التشاركية، بإعطاء كل مواطن الحق بتقديم التماسات وشكاوى ومطالبات للدفاع عن حقوقه أمام الجهات المختصة.
لا تعطي الديمقراطية التشاركية – كما هو الحال في الديمقراطية التمثيلية – حقوقاً وسلطات لأولئك الذي فازوا بـ 51 % وحسب، وإنما تعمل على مشاركة الـ 49 % الذين قد يخسروا الانتخابات. وبالتالي توسيع دائرة المشاركة لتشمل جميع المواطنين في صناعة القرار، كي يمارسوا حقهم في مراقبة القوانين والسياسيات سواء منها المحلية أو العامة، وبما يساعد على إدماج الجميع في المشاركة السياسية والاقتصادية والتنموية لبلادهم، والحد من الإقصاء والتهميش للأفراد والجماعات.
يُرجع الفقه الدستوري ولادة الديمقراطية التشاركية للمجتمع المدني، بما فيه من أحزاب سياسية غير منضوية في إطار السلطة، أو خارج ثنائية السلطة والمعارضة. انطلاقاً من دوره كفضاء جماعي يعمل على التوفيق بين القيم والمصالح العامة والخدمات، وعدم احتكارها بالجوانب السياسية التي تقوم عليها الديمقراطيات الكلاسيكية.
تبدو الحاجة أكثر للديمقراطية التشاركية في معرض صراع عنيف أو في مراحل ما بعد الصراع، وذلك بقدرتها على تقديم إجابات مباشرة لبحث الأسباب البنيوية التي أدت إلى نشوب الصراع، سواء كان سياسياً بسبب تركيز كل السلطات بيد واحدة في المركز، أو اجتماعياً من خلال تذليل الفوارق المجتمعية بين المدن الكبرى والأطراف.
أثبتت مراحل ما بعد الانتفاضات العربية فشل الديمقراطية التمثيلية، التي أوصلت إلى السلطة إيديولوجيات إقصائية، لم تتمكن من تحقيق تطلعات الجماهير في بناء دولة المواطنة وصوغ مشروع وطني جامع قادر على الخروج بدستور عصري ودولة طبيعية.
إنّ تتبع التطورات التاريخية لفكرة الديمقراطية وصولاً لمفهومها المعاصر المتمثل بالديمقراطية التشاركية، يشير – وبما لا يدعو للشك- أنّ أدوار المجتمع المدني، لم تعد أدواراً حيادية، كما لم تعد نوعاً من أنواع التعاون والتوازن بين السلطة وحاجات المجتمعات وحسب، بقدر ما أصبحت تعبيراً يعكس عمق المجتمع كسلطة وثورة كامنتين وقابلتين للانفجار أمام أي هزة مهما صغرت.
إنّ فشل الديمقراطيات التمثيلية الكلاسيكية، كان أحد أهم الأسباب البنيوية لنشوب غالبية الصراعات الداخلية في أوروبا. ولا نبالغ بالقول بأنها كانت مقدمة لنشوب الحربين العالميتين الأولى والثانية، فهي ذاتها التي أوصلت – عبر صناديق الاقتراع- موسوليني وهتلر إلى قبة البرلمان، وتأسيس حكومات فاشية استناداً لقاعدة ” الفائز يربح كل شيء”.
من هذه النقطة بالذات، وبعد كل هذه التجارب السيئة للديمقراطية بمفهومها العام، جاءت الديمقراطية التشاركية كردة فعل من داخل الديمقراطية ذاتها، بدءاً من توسيع دائرة المشاركة للناخبين ومنحهم القدرة على توجيه السلطات العامة من خلال المشاركة بقراراتها، وانتهاءً بالنص عليها دستورياً، لتكون آلية ضابطة في مواجهة كل التحديات المطروحة على الصعيد المحلي، ومقدمة لحل المعضلات على الصعيد العام.
إنّ الديمقراطية التشاركية هي آلية مؤسساتية تجد تطبيقاتها العملية في المبادئ فوق الدستورية التي تتضمن الحقوق الطبيعية، مثل حق الحرية في التعبير والرأي، وحق الحياة، وحق الكرامة، وحق التجمع والتنظيم، وحق التملك، والحق في المساواة، والحق في الخصوصية، إلخ..، كحقوق تُمنح للفرد بمجرد ولادته بكونه إنساناً، وهي حقوق غير منشأة من السلطة وغير ممنوحة منها، لأنها متأصلة في النفس البشرية وموجودة فيها قبل الدولة وقبل العقد الاجتماعي؛ وبالتالي لا يجوز للسلطة بكل مستوياتها سلبها أو الانتقاص منها.
تجد الديمقراطية التشاركية تطبيقاتها في الحقوق الحقوق السياسية كجزء من من الحقوق الطبيعية؛ التي تُمنح للمواطن في دولته لتُمكنه من ممارسة حقوقه وواجباته، بهدف المشاركة في الحياة السياسية، كالحق في الانتخاب، والحق في الترشح، و حرية الاحتجاج والتظاهر السلمي، والحرية في التنظيم السياسي بهدف تداول السلطة سلمياً. كما تجد تطبيقاتها في الحقوق الاجتماعية، كالحق في مستوى لائق في المعيشة، والحق في السكن، والحق في العلاج، والحق في التعليم.
وأمام هذه الحقوق يتوسع مفهوم ممارسة المواطنة، إذ لا تعني الأخيرة – في إطار الديمقراطية التشاركية – حق المواطن في موطن يعيش فيه وحسب، وإنما حقه أيضاً ببناء هذا الموطن والمشاركة بسياسته وإدارته. وبالتالي تعمل الديمقراطية التشاركية- كآلية دستورية – على الانتقال من دولة السلطة إلى سلطة الدولة.
—————————————————————
د.محمد خالد الشاكر – باحث وأكاديمي سوري.