د . محمد حبش – الناس نيوز ::
مالك بن أنس هو أحد الأئمة الأربعة وهو أستاذ الشافعي، وقد أخذ عن أصحاب أبي حنيفة وتفرغ للرواية والإقراء في المدينة، فلم يخرج منها أبداً، ولكنه اكتسب شهرة كبيرة كفقيه تاريخي، وهو المقصود بالعبارة الشهيرة: أيفتى ومالك في المدينة؟
ولكن من أين أتت ديمقراطيته؟؟
هي سلسلة مواقف أظهر فيها الإمام مالك وعياً ديمقراطياً فريداً…
حين وصل الخليفة أبو جعفر المنصور إلى المدينة طلب الإمام مالك إليه، ولكن مالك قال: إن العلم يؤتى ولا يأتي، وقد أراد الله بالمنصور خيراً فتقبل الرسالة باحترام، وجاء يسعى إليه، وهذا سبق بالغ الأهمية في حماية العلم وحياده واستقلاله عن السياسة.
فلما استمع مجلسه ورأى علمه وتعرف إلى كتاب الموطأ، (قد يكون أول كتاب نشـر بالعربية بعد القرآن) قال: يا مالك سأفرض هذا الكتاب على سائر الأمصار فلا يفتى إلا بما فيه، ولأكتبن قولك كما تكتب المصاحف، ولأبعثن به إلى الآفاق فأحملهم عليه.!!
كانت فرصة من ذهب لأي باحث عن المجد، فالخليفة الذي يتوزع سلطانه في أكثر من أربعين بلداً قائماً اليوم من الأندلس إلى الصين، يقدم هذه الفرصة، ولكن مالك قال بوعي وتواضع: ما أحب هذا يا أمير المؤمنين!!! إن أصحاب رسول الله تفرقوا في الأمصار، وَعِنْدَ كُلِّ قَوْمٍ عِلْمٌ. فَإِذَا حَمَلْتَهُمْ عَلَى رأي واحد تكون فتنة!!!!
لقد اراد أن يقول: لا يوجد فقه يصلح لكل زمان ومكان!! ولو كان بكتابة مالك وتوقيع أمير المؤمنين… فلكل زمان ولكل مكان فقه ورجال… لا يوجد إسلام واحد نفرضه على العالم، بل هي آراء واجتهادات، ولكل زمان ومكان ما يناسبه من اجتهاد.
أي إسلام نريد أن نفرض على العالم ؟
وقال له أبو جعفر أنت أعلم الناس!! قال كلا يا أمير المؤمنين، العلم خزائن، يمنحها الله من يشاء، وقد أودع الله في أهل العراق والشام مثل ما أودع في الحجاز..
وفي خطوة ثانية اختار الإمام مالك العمل بإجماع أهل المدينة، ويعتبر الأصوليون ذلك مزية لأهل الحجاز دون سواهم، والواقع أن هذا الموقف كان يعكس وعي الإمام مالك باختلاف حاجة البلاد والأمصار، فإجماع أهل المدينة هو الأنسب لأهل المدينة، وإجماع أهل العراق لأهل العراق، وإجماع أهل الشام لأهل الشام، ومن حق كل شعب أن يختار فقهاءه وأن يدرس حاجاته وضروراته بعيداً عن هيمنة أي قطر على قطر… .
إن إجماع أهل المدينة هو المنطق التشريعي الأكثر عصـرانية وتحضـراً ووعياً، ليس على سبيل تفضيل بلد على آخر، وإسبال القداسة على جيل دون جيل، بل على أساس تكوين المجلس التشريعي في كل مدينة، والحكم بإجماع أهل تلك المدينة!
وفي خطوة ثالثة اشتهر الإمام مالك بصمته على أسئلة العراق، فحين جاءه فقهاء من العراق يحملون إليه أربعين مسألة، صمت في اثنتين وثلاثين، وأجاب في ثمانية وحين قالوا كيف نجيب الناس في العراق، قال ببساطة: قولوا مالك لا يعلم!! وهي عبارة واضحة واحترام لاختلاف المكان والزمان،
فقهاء العراق أولى بفهم شأن العراق، ونحن نفتي لأهل المدينة!!!
وفي خطوة رابعة اشتهر الإمام مالك برفضه المنطق الأرأيتي فكان إذا سأله سائل عن مسألة يقول: أوَ قد حصل؟ فإن قالوا لا، كان يمتنع عن الجواب ويقول دعوها لفقيه زمانها!!
لقد كان واضحاً أنه لا يوجد جواب صالح لكل زمان ومكان، وكان واضحاً أن شأن الفقه أن يتطور ويتغير، وأن الفتوى لا تنفصل عن الزمان والمكان، والفتوى المعلبة ضارة ومؤذية، ولا معنى لنصوص جامدة تستعصـي على التطور…
وفي خطوة خامسة في اعترافه بتطور المعرفة، كان يقول: لا يكون إماماً من يحدث بكل ما سمع، فقد يكون الحديث صحيحاً وموثوقاً ولكنه لا يناسب الزمان الذي هو فيه، وفي اعتراف فريد بتغير الأحكام بتغير الأزمان كان يقول: لقد حدثت بأحاديث وددت أني ضربت بكل حديث منها سوطين ولم أحدث بها.!!
وفي خطوة سادسة، كان الإمام مالك يروي أحاديث الرسول على غاية من الهيبة والبهاء والجلال، ولكنه كان يملك الشجاعة والقدرة أن يقول في كثير من أحاديث المعاملات: لم يعد هذا مناسباً لزماننا!!!، وهذا مفهوم عبارته الدقيقة التي وردت في الموطأ خمس مرات: (الحديث صحيح، وليس عليه العمل) ونقلها الفقهاء عن مالك في 216 موضعاً!! وكان ابن القاسم يقول: نهاني مالك عن اتباع الحديث الذي ليس عليه العمل!!.
وعلى الرغم من هيبة مالك ووقاره وشخصيته الآسرة فإنه لم يسلم من زعران عصـره، وحين كان يروي ليس على مستكرَه بيعة ولا طلاق، رفع التقرير لمخابرات الخليفة بأن مالك يغمز من بيعة أمير المؤمنين فقام والي المدينة جعفر بن سليمان باستدعائه وحين أقر بما روى أمر بتجريده وحلق شعره، وجلده ستين سوطاً وأمر بضيق محبسه والاستبلاغ في امتهانه، ثم حمله على حمار وأمر أن يطاف به في المدينة فكان يقول: أنا مالك بن أنس الأصبحي، فاعرفوني، وإني أقول ليس على مستكره طلاق ولا بيعة!!
إنها بعض محطات من حياة هذا الإمام المهيب، نرويها عادة دون الإشارة إلى بعدها الديمقراطي والحضاري، وعقليته التشاركية والحضارية.
طبعاً لن أضع القلم حتى أعترف بأن كتب التاريخ التي نقلت هذا كله، نقلت عن مالك أيضأ مواقف متصلبة في احتكار الحقيقة، بل إن لهم تأويلات تخرج هذه المواقف التي رويناها عن سياقها الحضاري والديمقراطي، وتعيدها سلفية متشددة، وهكذا هو التاريخ، بستان معرفة نتفيأ ظلاله ونتقي قيظه، ونتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم، فاستمعوا القول واتبعوا أحسنه، والموعد الله.