د . محمد حبش – الناس نيوز ::
لنتصور أن الدين كائن بشري، وهل هناك أرقى من الإنسان الذي سجدت له الملائكة وأجلسه الله عن يمينه ونفخ فيه من روحه، وقال ما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعي قلب عبدي المؤمن؟
ولكن هذا الكائن البشري يجب أن يعتني بنفسه باستمرار وعليه أن يطل علينا بأجمل مظهر وأبهى ثياب، حتى تبقى تلك الإشراقة التي منحها الله للإنسان في إطلالته الأولى.
لا يمكن للإنسان أن يكتفي بمجد الله ويهمل نفسه، وعليه أن يحلق شعره وينظف وجهه وأسنانه ويغسل ملابسه ويستبدلها بين حين وحين، وعليه أن يطل على الناس ببسمة جديدة ووجه نضر وثوب جديد فثياب العرس الفاخرة ستغدو بعد أربعين عاماً أسمالاً بالية لا تصلح إلا أكفاناً.
إنهم يكتفون بلحظة من التاريخ اكتمل فيها كل شيء، وعلى الإنسان أن لا يتحول أبداً عن ذلك المشهد الأول، فهو كمال مطلق، عابر للزمان والمكان، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وفي فهم متصلب كهذا بات الدين يطل على الناس بلحية وأظافر طولها 1400 عام، وإذا دعي إلى الحمام والماء قال أنا أطهر الطاهرين، وإذا دعي إلى صالون التجميل قال أنا من مسحتني يد الله فلا أحتاج جمالاً زائفاً، وأنا في نعيم لا يحتاج أي تعقيم.
والعروس التي تأخذ الألباب لن تبقى عروساً بعد ستين سنة، ولن ينفعها في شيء حفاظها على شكل مشيتها ورقصتها وطلائها وأظافرها التي ظهرت بها في ذكرى الفرح الغابر وباتت بحاجة إلى فلسفة جديدة في الحب والجمال.
الرسول نفسه قال لواعظين من أصحابه: إن منكم منفرين!! إنهم يتلون القرآن القراءة الصحيحة ويجيدون أحكامه وترتيله وتفسيره ولكنهم منفرون، يثقلون على الناس في العبادة ويأخذونهم بالشدائد ويزهدونهم في الجمال والحياة والحب، ويدعونهم إلى الرهبنة ولا رهبانية في الإسلام.
حتى الرسول نفسه كان يقلم أظافره ويكور عمامته، ويتجمل للوفد، ولم نسمع في أخباره ولا آثاره امتناعه عن التطوير والتحديث بحجة أن الله اصطفاه على العالمين واصطنعه على عينه، ووهبه من إشراقه دون العالمين.
والدين أقوى غرائز المجتمع، ومن المؤسف أنه حين يقرأ مئات من الناس هذه المقالة التي تدعو إلى جمال ما خلق الله في هذا العالم، والتمتع بما فيه الأرض من جمال ورحمة، والرقص والفرح فيها، فإن ملايين آخرون يقرؤون مقالات من نوع آخر: الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، الدنيا فتنة، والإنسان أوله نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة، يا دنيا طلقتك ثلاثاً، وفي تفسير تشاؤمي كريه لخص بعضهم مقاصد الدنيا وقيمتها وحضاراتها عبر شرح الآية الكريمة وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور بأنها: منديل الحائض!!
نعم نحتاج إلى رؤية أخرى للدين، تعيد تقييم صوابه وخطئه على أساس من الجمال والحب والخير الإنساني، بعيداً عن تقييم اللاهوت المستند إلى ميتافيزيقا متعالية على التفسير.
لا شيء خطأ في عبارة مثل: الدين جمال والله محبة والمرأة حرة والفن نعيم والموسيقا غذاء الروح والإنسان مظهر الله، مهما كانت هذه العبارات مبتدعة ومصادمة لنصوص الرواية، فالمقاصد ينبغي أن تتجاوز القيود ويجب أن تقدم نفسها للعالم بروح أخرى لا تشبه في شيء ذلك الهوان المقيت الذي تفرضه روايات من خشب متصلب لا ترى في هذا العالم إلا صورة إلا مقبرة كئيبة خاوية من الروح والحياة.
لا أتكلم هنا بأدلة ولا برهان، بل أتكلم بانطباع بريء في مواجهة مظهر كئيب للدين يطرحه بعض الواعظين على هيئة عجوز طاعن لا يقبل أي تهذيب أو تشذيب، قد يئس من الحياة كما يئس الكفار من أصحاب القبور.
كل شيء في الحياة إلى تطور، حتى في المفاهيم والأيديولوجيات، والعالم كله ليس حقيقة قارة بل جدل متلاطم، والديالكتيك جوهر الحياة وقانونها، وهو يشمل الذرة والمجرة وما بينهما من الأشياء والتصورات والأفكار، والديالكتيك في عصر الرسالة نسخ عشرين آية محكمة، وأعلن أنه مستمر عبر أدوات التقييد والتخصيص ولولا ذلك لما كان لنا أن نقرأ نصاً مفهوماً ولا عبارة ممكنة، ولا شك أن هيرمونوطيقا النص كله يدور في الفلك ذاته ويدعو الناس إلى معانيه.
ليست حقائق الديالكتيك فلسفة هيجلية بل هي قانون عقل، ربما لا يتفق الفلاسفة على تصوراته ولكنهم جميعاً يؤمنون به، والحقيقة واحدة ولكن الطرق إليها متعددة، والجمال واحد ولكن التعبير عنه متنوع، والإشراق واحد ولكن الأديان متعددة.
لقد قام الكهنوت يواجه بضراوة كل مظاهر العقل والحب في الخطاب الديني، ومع أنهم القوم سلفيون متصلبون ولكنهم ابتكروا أسماء محدثة لأهل التنوير، مسلم كيوت!! يقوم بتمييع الدين، إسلام خالي الدسم، إسلام حسب الطلب!! إلى غير ذلك من الغمز والهمز واللمز.
ببساطة إن هذه الشتائم المهذبة التي يستخدمونها هي بدعة محدثة وتحوير مقصود لمصطلحات قرآنية ونبوية، فالكيوت والمائع وخالي الدسم هو تعبير سوقي للمصطلح القرآني: تخفيف الدين، يسر الدين، جمال الدين، رحمة الدين.
وما يسمونه كيوت سماه القرآن: الرحمة وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين، وما أسموه التمييع سماه القرآن التخفيف، وما يسمونه الترخيص سماه القرآن الكريم اليسر، ويمكن تقديم الفكرة ببساطة أخرى عبر نصوص من الرواية أيها الناس بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا، وما خير رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما، والله جميل يحب الجمال، ويريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، ويريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً.