أحمد كنعان – الناس نيوز ::
يقول تعليق على كريكاتير فيه ببغاء داخل قفص يسأله الغراب لماذا وضعوك في القفص؟ فيجيب الببغاء لأني أتكلم.
لعلها سخرية تلخص حال الرقابة في كثير من البلدان التي تحكمها أنظمة شمولية، فهل سيتوقف الببغاء عن الكلام إذا وضعناه في قفص؟ وتثير الرقابة على الفن أسئلة مستفزة كثيرة لعل أهمها لماذا تراقبون الفن؟ أصلا في العموم لماذا نراقب في زمن الإنترنت ومصادر المعلومات المتاحة والمعرفة الحديثة الخ ؟ قد يكون الجواب الوحيد أننا نراقب ما يشعرنا بالقلق؟ هنا يبرز سؤال آخر كيف لدولة أو مجتمع أن يقلق من الفن؟
ما هي مواصفات هذه الدولة أو هذا المجتمع الذي يقلق من الفن؟ ألا ترون معي أن الهشاشة والضعف والذعر سمات بارزة هنا؟ وهل يحق للمذعور أو الهش أن يفرض وجهة نظره ويطالب الفنان بالالتزام بها؟ كلنا نعرف أن المجتمعات الغربية جنت ثماراً كثيرة من خلال إلغاء القيود على الأعمال الفنية، لعل أوضحها التحرر الاجتماعي، ونبذ خطاب الكراهية، والانفتاح في التفكير، وكل ذلك حصل نتيجة ملامسة الفن لمناطق تعتبر حساسة بالمنطق الاجتماعي والديني، ونجح من خلال ذلك في تغيير وتصويب مفاهيم كثيرة كالشرف والحرية وغيرها، ما أدى بدوره إلى ترسيخ أسس السلام الاجتماعي والاحترام وتطور تلك المجتمعات.
مخالفة دستورية .
بالرغم من أن بعض الأنظمة الشمولية نظمت آلية الرقابة، ووضعت لها قوانينها إلا أن الرقابة على الأعمال الفنية في سوريا ما زالت ضبابية ومزاجية ولا قوانين ناظمة لها ” …” ، فلا يوجد حتى الآن في القوانين السورية مواد تنظم إنتاج الفنون، وتوضح ما هو ممنوع وما هو مسموح، وما زال حتى الآن تحصيل السجل التجاري الذي يتم بموجبه تأسيس مؤسسة أو شركة للإنتاج الفني يتم من خلال مديريات التموين، تماما كالراغبين بالعمل في أي بضائع أخرى، والتناقض الهائل يكمن في أن الدستور السوري يحفظ حق الحرية الفنية وحرية التعبير بشكل صريح وواضح لا لبس فيه، حيث جاء في المادة (31) من دستور الجمهورية العربية السورية: “تدعم الدولة البحث العلمي بكل متطلباته، وتكفل حرية الإبداع العلمي والأدبي والفني والثقافي، وتوفر الوسائل المحققة لذلك، وتقدم الدولة كل مساعدة لتقدم العلوم والفنون، وتشجع الاختراعات العلمية والفنية، والكفاءات والمواهب المبدعة، وتحمي نتائجها”.
وجاء أيضا في المادة (34) من ذات الدستور ما نصه: “لكل مواطن حق الإسهام في الحياة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، وينظم القانون ذلك”. كما جاء في المادة (42) من الدستور: “لكل مواطن الحق أن يعرب عن رأيه بحرية وعلنية بالقول، أو الكتابة، أو بوسائل التعبير كافة”. وعلى هذا الأساس ألا تكون كل لجان الرقابة والتقييم الفكري وكل قرارات المنع مخالفة للدستور؟ من الضروري إذن وضع قوانين ناظمة منسجمة مع مواد الدستور التي تحفظ بوضوح شديد الحرية الفنية وحرية التعبير عن الرأي.
الفن الحقيقي يصادم ولا يهادن:
ترتفع أصوات بعض المثقفين المحسوبين على السلطتين السياسية والدينية، بضرورة رقابة وضبط وتجنب كل ما يمكن له أن يثير الغبار حول العادات الاجتماعية والتقاليد الناجزة، أو ما قد يخدش الحياء العام أو ما يدنو من المقدسات، وكأن مهمة الفن مسايرة السائد والحفاظ على المتخلف والبالي، وليست مهمته أصلا الدخول في صدام مع كل المسلّمات، والدخول في كل ما من شأنه إحداث تغيير في الوعي أو على الأقل إعادة النظر بما يعتبره المجتمع بديهيات.
سطحية وسذاجة العقل الرقابي:
لعل الحوار الأخير للفنان عباس النوري على إذاعة المدينة إف إم، في برنامج المختار الذي تم حذفه عن شبكة الإنترنت يشكل مثالاً بارزاً على مدى تدخل الرقابة بكل ما يتم إنتاجه وتقديمه على وسائل الإعلام السورية، ومدى سذاجة العقل الرقابي حيث عاد الفنان عباس النوري للحديث ومن خلال البرنامج ذاته ولم يتراجع إلا عن فكرة واحدة، وروى لجريدتنا المخرج زهير قنوع أنه قدم فيلماً يناهض العنف ولكنه يحتوي على مشاهد عنيفة، فتم رفضه لأن اللجنة التي راقبته رأت أنه يشجع على العنف، كما أن التعميم الذي أصدرته نقابة الفنانين والذي يطالب بعدم التدخين وربط حزام الأمان أثار سخرية واستهجان الجمهور عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وعبر بوضوح عن انفصال الرقيب عن الواقع وعن آلية إنتاج الفن، فكيف نستطيع تقديم مشهد لسائق أرعن إذا كان مفروضاً عليه وضع حزام الأمان، وأعاد إلى الأذهان مسلسل “الخشخاش” الذي يناقش موضوع الحشيش ولم تدخن خلال المسلسل سيكارة واحدة .. إنها مهزلة.
بيروقراطية وطلب رشاوي وتدخلات خارجية:
يرى الروائي والسيناريست السوري خالد خليفة أن قرارات الرقابة هي بيروقراطية موظفين صغار، ولا تتخذ على مستويات عليا، ويقول الكاتب والسيناريست فؤاد حميرة أن كل القصة هي لطلب الرشاوي، ويضيف الكاتب حميرة أن مسلسله “الزبال” تم إرساله إلى السفير التركي في دمشق أيام كانت العلاقة طيبة بين دمشق وأنقرة، ورفض السفير التركي الموافقة على المسلسل فتم رفضه من لجنة الرقابة.
أصل الحكاية:
انتعش الرقيب بعد الضجة الكبيرة التي أحدثها مسلسل دقيقة صمت، والتي نتج عنها قيام وزارة الإعلام بدمشق برفع دعوى قضائية على الشركتين المنتجتين الصباح وأرناوؤط، وإلقاء الحجز الاحتياطي على أموالهما لأنهما قامتا بتهريب العمل دون إجازة تصدير، ما جعل منسوب الذعر والهشاشة يرتفع لدى لجان الرقابة وقراءة النصوص، فصارت أكثر تشدداً في منح أذونات التصوير، كما صارت تطالب بمراقبة العمل المصور قبل تصديره، وكانت النتيجة تراجع الإنتاج التلفزيوني تراجعاً واضحاً حيث لم يتجاوز إنتاج موسم 2021/2022 عشرة مسلسلات، وقد تكون الدراما هي السلعة الوحيدة التي مازال السوريون يصدرونها خلال سنوات الحرب.
استثناءات (خيار وفقوس):
في ظل كل ذلك تستطيع رشا شربتجي على سبيل المثال تمرير مشهد في مسلسلها كسر عظم، يصطف فيه ضابط الشرطة في صف متحرش ويطلب من المتحرش بها أن تحتشم بلباسها كي تتجنب التحرش، رغم أن لباسها كان عادياً جداً، والسؤال أين كانت الرقابة الحريصة على عدم وهن عزيمة الأمة من هذه الرسالة الخطيرة التي تقول: إن ضباط الشرطة وهم الأداة التنفيذية للقانون، لا يطبقون القانون وإنما يعتمدون وصايا اجتماعية رثة في تعاطيهم مع الجرائم؟
هنا قد نستطيع الاستنتاج أن لجان الرقابة لا تجرؤ على رفض أعمال تتبناها أسماء محددة لها نفوذها خوفاً من غضبها، وقد تكون القضية أن هناك أشخاص مسموح لهم كل شيء، وآخرون ممنوع عليهم كل شيء.
قمة السذاجة والعبث واللاجدوى:
شكل قرار لجنة صناعة السينما والتلفزيون ذو الرقم 23 / ص بتاريخ 5/ 1 / 2022 قمة السذاجة، حيث إنه يطمح للمستحيل، لأنه يريد أن يراقب ما يتم تحميله على شبكة الإنترنت، هل هذا ممكن؟
إذا حملت فيديوهاتي من خلال حساب في دولة أخرى هل ستستطيع محاسبتي؟ ثم كيف يمكن للجنة صناعة السينما أن تحيل الفنان الذي يكفل الدستور حريته الكاملة إلى محكمة الجرائم الإلكترونية لعل أقل ما يمكن المطالبة به هنا هو محاكمة لجنة صناعة السينما والتلفزيون الرسمي بتهمة مخالفة الدستور، وللعلم فقط فقد استطاع ناشطون استعادة حوار عباس النوري الذي تم حذفه وقاموا بإعادة نشره، ووصلنا نسخة عنه ، من صفحة الممثل السوري العالمي سعد لوستان فماذا كانت الجدوى من المنع ومن الحذف؟ ما هذا العبث الذي توظفون عقولكم ( اذا توفر نسبة من العقل ) لإنجازه؟
قد لا يختلف أحد مع لجنة صناعة السينما والتلفزيون أن أغلب ما يطرح عبر منصات التواصل الاجتماعي من إنتاج شبابي هو دون المستوى الفني المطلوب الخ ، وعلى الأرجح هم بالتأكيد نتيجة لفشل أعمال وزارات الثقافة والإعلام وحتى وزارات التربية والتعليم العالي…
نعم تستطيع وضع الببغاء في قفص ولكنك لن تستطيع منعه من الكلام .


الأكثر شعبية



الشرع يستقبل عضو الكونغرس الأميركي كوري ميلز والوفد السوري…
